- En
- Fr
- عربي
قضايا إقليمية
الاحتلال الاسرائيلي أدى الى تشويه صورة الدولة في العالم وهي غير قابلة للاستمرار اذا لم يتم التوصل الى حل منطقي وأخلاقي يصحح الوضع القائم
مع صعود الليكود وسيطرته على سدة القرار اتسعت دائرة الجدال والمشاحنات داخل اسرائيل بشأن التداعيات المختلفة للنهج الجديد على بنية المجتمع الاسرائيلي
خيارات المستقبل غيتو أم مجتمع مفتوح؟
يعتبر المؤرخ الاسرائيلي ي. تلمون من أوائل الذين طالبوا بوضع صيغة جديدة للدولة تتماشى مع المتغيرات الدولية الجديدة. وحدث ذلك قبل انهيار الاتحاد السوفياتي وبروز العولمة، حين ذكر في دراسة له ان «الصراع المشتعل داخل اسرائيل قد كشف على نفسه في شكل تناقض بين أنصار الاتجاهات التي تميل الى صياغة مستقبل اسرائيل باعتبارها مجرد غيتو (معزل) كبير بالمعنى المادي والروحي (ويقصد هنا التيار الأصولي الديني)، وبين أولئك الذين يجاهدون من أجل اقامة مجتمع مفتوح (ويقصد التيار العلماني)».
وأضاف تلمون ان الخلافات تدور بين أنصار التكامل مع الحضارة الانسانية المعاصرة وبين أنصار الانعزال والابتعاد عن هذه الحضارة ورموزها ومتطلباتها. وخلص بعد ذلك الى القول بأن هذه الأمور تشكل جوهر المشكلة الاسرائيلية في أبعادها الجوهرية الاجتماعية والسياسية، في الوقت الحاضر وفي المستقبل. وعلى ضوء هذا التحديد يمكننا أن نفهم الدور الحساس الذي نذر الجنرال شارون نفسه له في مرحلة من اكثر المراحل حساسية في تاريخ الكيان العبري. والحقيقة انه مع صعود الليكود وسيطرته على سدة القرار، في ظل انتشار العولمة واندفاع اسرائيل الى البحث عن دور فيها، اتسعت دائرة الجدال والمشاحنات داخل اسرائيل بشأن التداعيات المختلفة للنهج الجديد على بنية المجتمع الاسرائيلي اليهودي بل وعلى مستقبل الدولة ككل. وعادت المناقشات لتدور حول صدقية الهدف الأساسي الذي قامت عليه الدولة ومدى تناقضه مع واقع الدولة حالياً وفي المستقبل. وفي هذا المجال ذكر الدكتور يعقوف حسداي ان مؤسسي الدولة الأوائل أعلنوا في حينه ان هدفهم هو اقامة وطن قومي لليهود تكون له حدوده وسيادته القومية وثقافته اليهودية مع اقامة مجتمع يقوم على تحقيق العدل والمساواة بين الجميع. ورأى حسداي انه مع مرور الوقت «تأكَّد ان ما أقيم هو مجرد كيان يشكل بقايا هوية قديمة تنتمي الى ماضٍ حالك السواد، ولذلك يجب ازالة هذا الوطن القومي من الوجود، على ان يقام على أنقاضه مجتمعٌ جديد يقبل العيش كجزء من القرية العالمية ولا يكون كياناً يعيش في ظل عالم من الأساطير والأوهام القديمة».
وإذ اكتفى حسداي بمجرد الدعوة لإعادة بناء كيان اسرائيلي جديد مختلف عما هو قائم الآن، فإن جدعون سامت، رأى في صحيفة «هآرتس» ان «الواقع الراهن سيؤدي حتماً الى انهيار الدولة»، وأضاف: «ان اسرائيل تحولت الى دولة مريضة بدأت تفقد تدريجياً غالبية الأهداف التي حددتها لها الحركة الصهيونية، الأمر الذي أدى الى اختفاء البعد القومي للدولة وبصورة تبعث على القلق». وفي السياق نفسه حذر حسداي من ان تبني مشروع الشرق الأوسط الجديد سوف ينشئ نموذجاً اجتماعياً جديداً في اسرائيل، يقوم على ظهور مجتمع آخر يختلف عن المجتمع الاسرائيلي اليهودي القديم، وحذر من نتائج الخلافات بين المؤيدين والمعارضين لهذه الفكرة وقال: «إن ما يحدث الآن يشبه ما حدث في أواخر «الهيكل الثاني» حين اقتتل الاسرائيليون في ما بينهم بينما كانت فيالق القرية العالمية تقترب منهم وتهدد الوطن وتهددهم بالخراب».
ان الذي يميز آرييل شارون في ظل هذه المتغيرات، هو انه عرف كيف يستغلها بحسه الغوغائي المميَّز ويوظفها سياسياً في مشروعه القومي العنصري. وهذا ما حذر منه المفكر الاسرائيلي بوعاز عفرون حين قال: «ان الوقوع في أسر أساطير وأفكار قديمة هو الذي يقف وراء النظر الى الحركة الصهيونية والى الدولة، ليس باعتبارهما وسيلة للانخراط في التاريخ والسعي للمشاركة في النشاط العالمي كطرفٍ متساوٍ، بل النظر اليهما باعتبارهما وسيلةً للانتقام التاريخي، حتى بعد أن أقيمت اسرائيل وأصبحت دولة قوية في المنطقة، ويتمثل ذلك في وضع شروط لا يمكن قبولها عربياً ودولياً».
بتعبير آخر، يمكن القول ان اسرائيل التي لم تنشأ بمقتضى الطبيعة التلقائية للتطور البشري، أو في اطار ما يسمى القانون الطبيعي العالمي ولا حتى في اطار ما يعرف بالعقد الاجتماعي المتعارف عليه، تكون إذن قد نشأت واستمرت بدعوى الوعد الالهي ونتيجة لما سمي بالقوة القاهرة، وهي الآن، حسبما ارادها شارون، مجرد دولة يهودية عنصرية، تستجيب لمشروع ثقافي سياسي له خلفيته الأسطورية وادعاءاته الدينية وقوته العسكرية الامبراطورية. وبالتالي فهي دولة واقعة خارج نطاق الأوضاع الطبيعية للحكومات والدول والشعوب العادية الاخرى، بل ولقد شبهها بعض المفكرين الاسرائيليين بدولة سدوم وعمورة التي أبيدت عن وجه الأرض. والمقصود بذلك انها دولة فساد وإفساد حسبما جاء في كتاب المفكر موشيه نجفي، الذي نشرت صحيفة «هآرتس» ملخصاً له تناول أحوال وخصائص المجتمع الاسرائيلي الراهن في ظل ولاية شارون وما بعده، والتي من أبرز معالمها ما يلي:
- تواطؤ رجال السياسة أو عجزهم في التصدي لظاهرة تسلل عناصر اجرامية موصوفة الى عالم السياسة والحكم.
- انتهاج المحاكم مواقف متساهلة ومتسامحة في تعاملها مع الشخصيات العامة المتهمة بالفساد والرشوة والمحسوبيات.
- ابراز أجهزة الاعلام الشخصيات الضالعة في عالم الاجرام على انها من رموز الحياة الثقافية والسياسية في الدولة.
- تراجع سلطة القانون وتزايد معدلات الجريمة المنظمة.
- تطبيق أساليب عنصرية بحق الطبقات المستضعفة والفقيرة في الدولة ولا سيما العرب الفلسطينيين.
- التساهل مع رجال الدين المتعصبين الذين يحرضون باستمرار على أعمال العنف وانتهاك سلطة القانون.
- انتشار العنف والفساد الاخلاقي داخل الأسرة الاسرائيلية وداخل ألوية الجيش الاسرائيلي.
- تصدُّع اللُّحمة الوطنية والقدرة المعنوية على الصمود، وظهور التجمعات القطاعية الانعزالية.
- تزايد اعداد المتهربين من الخدمة العسكرية والفارين من الخدمة.
- تفاقم الفشل المتكرر في علاج المشاكل الاقتصادية والاجتماعية بسبب اخضاعها لجماعات الضغط النفعية ومصالحها الخاصة.
- الفشل في حل أزمات الصراع مع الفلسطينيين وثبوت العجز عن الاحتفاظ بالمستعمرات في الأراضي المحتلة.
- الاحساس باليأس من جراء احباط مسيرة السلام وانعدام الأمن والطمأنينة النفسية والاستقرار الاجتماعي.
وأخيراً نورد ما جاء في مقال افتتاحي لصحيفة «معاريف» الاسرائيلية، يختصر حالة عدم الاستقرار والخوف على المستقبل التي يعيشها مجتمع العدوان والاحتلال، حيث جاء: «ان اسرائيل تفتقر الآن لأي تصور بشأن شارات الطريق الذي يجب عليها السير فيه. فلا يعرف احد الآن الى أين تسير الدولة... لقد أدى الاحتلال الاسرائيلي الى تشويه صورة الدولة في العالم وهي غير قابلة للاستمرار اذا لم يتم التوصل الى حل منطقي وأخلاقي يصحح الوضع القائم».