- En
- Fr
- عربي
سياحة في الوطن
من القمقم المسحور في متحفها المنسي وسط غياهب مغاور التاريخ، إنطلقت من الخيال الى الحقيقة، بلدة الدمى الطينية الصغيرة ودبس الخروب اللذيذ، ومذابح الآلهة القديمة ورفيقة البحر يحدثها بألف حكاية وحكاية. الخرايب، أخذت بهاءها من زرقة البحر وعبيرها من زهر الليمون والقندول، فكانت زيارتها مناسبة حلوة للتمتّع بجمالاتها.
عامرة بأهلها وعريقة بماضيها
موقع الخرايب وآثارها
تقع الخرايب بين مدينتي صيدا وصور على الخط الساحلي وهي تابعة ادارياً لمحافظة لبنان الجنوبي، وتعلو عن سطح البحر حوالى 150م في أعلى نقطة فيها في منطقة ضهر العين.
يحدها من الشمال بلدة عدلون وكوثرية الرز، ويفصل بين البلدات نهر ابو الاسود الذي يشتد في الشتاء ويجف في الصيف. أما من الشرق فتحدها بلدتا أرزي والزرارية ومن الجنوب نهر الليطاني ومن الغرب البحر المتوسط. يضم نطاق الخرايب من الناحية الغربية مزارع عدة هي: السكنية وجمجيم وكفربدا والواسطة. المعلومات حول تاريخ الخرايب القديم والوسيط قليلة. إلاّ انه تبعاً لموقعها وللآثار التي وجدت فيها، كانت لها على الأرجح أهمية استراتيجية، وقد سكنتها شعوب مختلفة تركت آثاراً تدل على ذلك.
في العام 1946 كشفت أعمال التنقيب التي جرت بإشراف المديرية العامة للآثار في بلدة الخرايب عن واحد من اكثر المواقع أهمية في منطقة الجنوب. ولعلّ أبرز ما اكتشف في هذا المكان هو البناء ذي الشكل المربّع تقريباً (عرض 11 متر وطول 12,6 أمتار) والذي تبيّن من دراسة عناصره الأساسية انه معبد تم تكريسه في الماضي البعيد، كما يبدو، للإلهة عشتار - ايزيس وهي إلهة الحب والخصب. وقد عثر في هذا المعبد القديم على ثلاثة مذابح حجرية، كما وجدت على احدى عتبات المعبد نقوش مرسومة تمثّل قرص الشمس تحيط به حيتان.
الى ذلك فقد اكتشفت في البلدة احدى أهم مجموعات الدمى الطينية أو التماثيل الفخارية الصغيرة. وتمثل بعض هذه التماثيل إلهة الأمومة أو إلهة الخصب على صورة امرأة تحمل زهرة اللوتس وتتميّز بثدييها البارزين. وتجسد تماثيل اخرى الاله «بس» رفيق الالهة الحامل، والاله «تحوت» الذي يرمز اليه بصورة القرد. ويبدو ان هذا المعبد تغيّر في العهد الهلنيستي فقد عدّل شكله ليصبح مستطيلاً (عرض 11 متراً وطول 17 متراً)، وعثر فيه على مجموعة اخرى من الدمى الطينية من المرحلة التاريخية نفسها. ويصور أحد هذه التماثيل التي عثر عليها لاحقاً إلهة الخصب التي باتت تعرف في وقت لاحق باسم «ديمتير»؛ وثمة تماثيل اخرى تصوّر اشخاصاً يعزفون على آلات موسيقية، أو حيوانات مختلفة كالأحصنة والثيران.
وقد عثر أيضاً في هذا المعبد ومحيطه على مسكوكات تحمل اسم مدينة صور، مع تاريخ مدون عليها يعود الى بدايات القرن الثاني ميلادي (112-115م). وفي المنطقة المعروفة اليوم ب«المهدومة» بقايا آثار لقرية تشرف على البحر تعود الى العهد الروماني - البيزنطي وهو اليوم معروف باسم «المتحف». وهو مركز مسجّل لدى مصلحة الآثار التابعة لوزارة السياحة اللبنانية.
كذلك نجد في هذه المنطقة العديد من الأماكن التي ما تزال تعرف باسم «الأديرة»، وذلك لوجود عدد من الأديرة المنتشرة في مختلف أرجائها، ولربما أطلقت تسمية دير على المكان الخراب أو بقايا منزل أو منطقة مسكونة أو مزرعة صغيرة. وعلى سبيل المثال هنالك حي شمال البلدة القديمة، ما زال يعرف ب«حي الدير» أو حي «دير جعفر» و«دير تين أبو تينة» غربي البلدة، و«دير الملّولة» شرقي وادي أبو زيتون، و«دير حمزة» في الباهلية و«دير فليحان» مقابل وادي الطبل و«دير الاسد» شرقي عين جمجيم.
القرية في التاريخ الحديث
في معرض هذه اللمحة التاريخية يمكن الانطلاق من منتصف القرن التاسع عشر الميلادي أي الفترة التي بدأت تتوضّح فيها مرحلة نشوء القرية حديثاً، مع بداية قدوم الاسر والعائلات اليها، ومساهمتها في تكوين معالمها العمرانية والاقتصادية والاجتماعية. في منتصف القرن التاسع عشر، كانت الخرايب وتوابعها ملكية لناصيف الاسعد الذي كان يقيم في الزرارية، ولأسباب ربما تكون اقتصادية، أو لأسباب اخرى تعود للنظام الاقطاعي في ذلك الوقت (حيث كان الولاة العثمانيون يعهدون بالأراضي لمن يستطيع سداد ضريبة العشور عنها)، انتقلت ملكية الخرايب الى آل قدورة وهي عائلة من عائلات صيدا المعروفة. وحول انتقال الملكية يقول احد المعمرين في البلدة نقلاً عن روايات كانت تحكى أثناء طفولته، انه في العام 1885 تقريباً جرى اجتماع بين آل الاسعد من جهة وبين آل قدورة في بلدة الخرايب، وبالتحديد في المنطقة المعروفة اليوم ب«ضهر العواميد» وقد اجتمعوا تحت شجرة خروب، بحضور عدد من أبناء البلدة، وتم الإتفاق على انتقال ملكية الخرايب من آل الاسعد الى آل قدورة وكان كبيرهم يعرف ب «قدورة آغا».
بعد وفاة «قدورة آغا» انتقلت الملكية عن طريق الإرث الى أولاده الثلاثة وهم رفعت وبهجت ومحترم، وسكن كل منهم منزلاً في البلدة ثم بدأت عائلات الجوار بالتوافد الى البلدة.
وفي عهد الانتداب الفرنسي على لبنان وتحديداً حوالى العام 1925 بدأ آل قدورة ببيع الأراضي لسكان البلدة وعائلاتها، فاشترت العائلات الميسورة أراضٍ فيما تعاونت الاسر الفلاحية الفقيرة بما تيسر لهم واشتروا جزءاً من الأراضي واستملكوها.
عائلات البلدة
تمتد مساحة الخرايب حوالى 10 كلم من الشرق الى الغرب و7 كلم من الشمال الى الجنوب، ويبلغ عدد سكانها حوالى 9 آلاف نسمة وهم موزعون على العائلات التالية: عكوش، دهيني، الدرّ، حمّود، فركوح، حايك، حماده، زين، بلال، عزالدين، خليل، طبل، حمدان، شومان، شرقاوي، سبيتي، خليفة، مروة، كجك، غازي، صغير، صعب، شور، حريبي، عراجة، وهبي، حجازي، الخليلي، جزيني، الاسعد، صالح، رحال، اسماعيل، الحاج، حيدر، هاني، اخضر، رعد، موسى، الفارس، حمدون، جواد، حوراني، نصرالله، الغول، الريس، الحاج محمد، العلي، احمد، حسين، كسيره، قاسم، ناصر.
حكايات العين
من المعالم التاريخية البارزة في البلدة العين كمصدر أساسي لمياه الشرب والاستخدام المنزلي، وكم هي كثيرة الأساطير والروايات الشعبية والحكايات التي كانت تروى عن العين والجن ونبع الخرخورة. وقد فقدت عين الماء أهميتها بعد وصول مياه نبع الطاسة، لكن البلدة ظلت تعاني نقصاً كبيراً في كمية المياه، الى أن تمّ حفر البئر الارتوازية التي أمّنت المياه الى جميع المنازل بكميات كافية. وفي العام 1999 أعيد ترميم العين من قبل البلدية لتبقى رمزاً تاريخياً وتراثياً.
اقتصاد الاكتفاء الذاتي
في أواخر القرن التاسع عشر كان الوضع الاقتصادي والاجتماعي بدائياً يتمحور حول الزراعة ورعي المواشي وبعض المهن المتناسبة معها. اعتمدت البلدة على زراعة القمح والحبوب، وانتشرت على أراضيها أشجار التين والزيتون والخروب، كما اشتهرت قديماً - وما تزال - بصناعة دبس الخروب. وعندما اشترى الأهالي أراضي القرية من آل قدورة في العشرينيات كانوا جميعاً فلاحين أو يعملون في مهن وأشغال تدور في فلك الاقتصاد الريفي القائم على الاكتفاء الذاتي. وكانوا كثيراً ما يلجأون الى تبادل المنتوجات المحلية في ما بينهم وخصوصاً في وقت الأزمات والضائقة المعيشية، ممّا خلق لديهم روحاً تعاونية من الطراز الأول. أما اليوم فقد تحول المجتمع الى ما يشبه المدينة وتغيرت أنماط الانتاج والعلاقات وتنوعت كثيراً. لكن البلدة ما تزال تعتمد على زراعة الحبوب والزيتون. وتنتشر بساتين الحمضيات داخلها وفي أطرافها الغربية، وهناك مساحة لا بأس بها من الأراضي التي تزرع بالخضار. ولا بد من ذكر المصدر الزراعي الثاني وهو تربية المواشي والطيور والدواجن والنحل والتي تلقى عناية خاصة لأهميتها الاقتصادية والغذائية.
صناعات وأعمال حرفية
اقتصرت الصناعات الحرفية في البلدة، على بعض الحرف التقليدية القديمة والضرورية منها، لا سيما عصر الزيتون وصناعة دبس الخروب. ومن الأعمال الحرفية أيضاً صناعة «مدقات الكبّة» والجاروشة اليدوية وصناعة بعض المفروشات المنزلية كالمساند والكراسي المقششة، وصناعة المكانس وأعواد الفلاحة. وهناك من احترف النجارة حيث كانت تصنع أبواب وشبابيك المنازل من خشب القطران. وفي البلدة اليوم مصنع بلاستيك ينتج الأواني المنزلية والكراسي، ومعامل عدة للخشب ومواد البناء وتزدهر فيها صناعة الأدوات والمفروشات اضافة الى أعمال صيانة السيارات.
الخرايب العامرة
رئيس بلدية الخرايب الحاج حاتم عكوش حدثنا عن جهود البلدية في مجالات عدة، فقال: إن البنى التحتية للبلدة كانت شبه معدومة وقد عملت البلدية على تعبيد بعض الطرقات وتوسيع البعض الآخر وشق طرقات جديدة. وبما ان قسماً كبيراً من الأهالي يعيشون من القطاع الزراعي، قامت البلدية بشق الطرق الزراعية وتوسيعها وتعبيدها ليتسنى لمزارعي البلدة نقل محاصيلهم بكل سهولة. وعلى صعيد آخر عملت البلدية على توسيع مجاري المياه وإقامة حيطان دعم وشق طرقات فرعية من الاسمنت، كما ساعدت بإنشاء شبكة مياه جديدة للبلدة وحفر بئر ارتوازي. في مجال الصرف الصحي أقامت البلدية التمديدات وهي تعمل لإقامة محطة تكرير.
وعلى صعيد موازٍ أمّنت البلدية عملية جمع النفايات من الأحياء كافة، وأقامت مكباً في مكان ناءٍ عن البلدة، وهي تسعى جاهدة لإقامة مشروع لحرق النفايات بطريقة بيئية سليمة. كما انشأت حديقة عامة وزينت مداخل البلدة بالأشجار. ونظمت البلدية بالتعاون مع الجمعيات الأهلية دورات للأشغال اليدوية تابعتها اعداد كبيرة من الفتيات. وتساهم البلدية سنوياً في نفقات تعليم عدد كبير من الطلاب المعوزين. وفي هذا الاطار وضعت قطعة أرض كبيرة بتصرف وزارة التربية لإنشاء مدرسة رسمية عليها. وأنشأت البلدية ملعباً لنادي الاخوة الرياضي وآخر للكشافة في البلدة وذلك تشجيعاً للعمل الرياضي والروح الرياضية.
أما على الصعيد الاجتماعي فقد قدّمت البلدية مبنى مؤلفاً من عشر غرف لصالح وزارة الشؤون الاجتماعية التي أقامت عليه مستوصفاً صحياً لأبناء البلدة والجوار.
وختم الحاج حاتم عكوش حديثه بالقول «ان البلدية ورشة دائمة لتحسين أوضاع البلدة وتأمين عيش لائق وحياة كريمة لابنائها، ولأن اسم الخرايب يوحي بعكس فعلها، أبينا إلاّ أن تكون عامرة بقلوب ساكنيها.
تصوير: جوزيف انطي
مراجع:
- بلدة الخرايب عام 2000، نادي الفجر الثقافي.
- الخرايب: تاريخ يرسم الأجيال 2004.
- بلدية الخرايب.