- En
- Fr
- عربي
ضيف العدد
من المسلّم به أن لا معنى لوجود أي وطن، ولا مسوّغ لنشوئه ولا ضمانة لاستمرار كيانه الحقوقي السياسي ولا صيانة له، بدون وعي عميق وفهم صحيح للمقومات الأساسية التي تشكّل قاعدة الوجود والكيان. وهذه المقوّمات هي: أولاً:الأرض، وهي القاعدة المادية الثابتة للكيان والتي يشكّل موقعها ومناخها وطبيعة تربتها وتكوينها مجموعة عوامل بيئية جغرافية طبيعية مؤثرة وفاعلة في التاريخ الإنساني الذي يغوص بجذوره كلّها في الواقع المادي للأرض. ثانياً: "الشعب" المقيم في الأرض والذي يعطي معنى للتاريخ ويعيّن مساره ويوجّه تطوّره ويقرر صيرورته. ثالثاً: "التراث" بوجهيه، المادي (أي الإرث) ، والمعنوي بمختلف مظاهره، في مجالات الدين والإجتماع والإقتصاد والفلسفة والآداب والفنون والعلوم والسياسة، فضلاً عن العادات والتقاليد الشعبية المتعددة الوجوه (الفولكلور) . وهذا التراث هو الذي يعبر عن الشخصية التاريخية للشعب ويحدد خصائص هويته الحضارية، بتعدد عناصرها ومركباتها، والتي هي حصيلة التفاعل بين الإنسان وبيئته الطبيعية والبشرية والحضارية.
هذه المقومات الأساسية الثلاث تتوضّح مع الزمن وتهيئ لنشوء كيان سياسي قانوني هو "الدول" التي تأتي تعبيراً عن إرادة شعبية وطنية وتجسيداً لشعور بالإنتماء الى كيان وطني موحّد (واحد) وموحّد (جامع) ، وعن الولاء الحصري له.
نشأت "دولة لبنان الكبير"، في 1 أيلول 1920، التي أعلنها الجنرال هنري غورو، مفوّضاً من قبل الحكومة الفرنسية بتطبيق قرارات مؤتمر الصلح في باريس والقاضية بتحقيق مطالب اللبنانيين التي عبّر عنها مجلس إدارة جبل لبنان.
نتيجة الاعتراف الدولي توطّدت أسس "دولة لبنان الكبير" بعد إعلان صك الإنتداب من قبل عصبة الأمم في 24 تموز 1922 وأصبحت حدود هذه الدولة هي حدود لبنان الحالية، وقد كرّسها الدستور اللبناني الذي وُضع في 23 أيار 1926. هذه الحدود أكّدت الإعتراف بها مرة أخرى دول العالم المنتمية الى منظمة الأمم المتحدة ابتداءً من سنة 1945.
لكن، إذا كانت الأوطان تبنيها إرادة بنيها، فإن هذه الإرادة لا تنتقل من حالة اللاوعي الى الوعي ومن حالة الإنفعال الى الفعل ومن حالة الجمود الى الديناميكية إلا بـ"لمعرفة". وقاعدة المعرفة الوطنية بداهة هي معرفة مقوّمات وجود الوطن. هذه المعرفة هي يقظة الذات على طاقاتها ومصدر ثقتها بنفسها وإيمانها بكيانها.
ومن أبرز المشاعر الوطنية وأشدها ارتباطاً بحسّ الإنتماء الى الوطن والولاء له هو الشعور بالسيادة. وإن مفهوم السيادة يتلازم مع منطق وجود الدولة ويتجسد بالحق الطبيعي الذي يمارسه المواطن على أرض وطنه في إطار القانون وفي ظل العدالة. لكن "الحق" ليس شعوراً غريزياً أو فطرياً بل هو ارتباط بوعي وإدراك للمقومات التي تبرره. فبقدر ما يُدرك المواطن مبررات حقه والمسوّغات الطبيعية والتاريخية لوجود وطنه، بالقدر ذاته يعي مفهوم السيادة الوطنية، وتنمو لديه الرغبة في الذود عن حياضه والدفاع عن كل ذرّة من ترابه.
على أن معرفة مقومات وجود الكيان الوطني يجب أن تتحصّن بمعرفة صحيحة وموحدة لمفهوم الوطن. فالوطن مبدئياً، وفي نظر المواطنين يجب أن يكون بمنزلة "الأب" الحاضن لأبنائه، يتساوون عنده في حقوق البنوّة: هم أخوة لأب واحد، وليسوا أزواجاً متعاقدين "يملك" كل واحد منهم عدداً من أسهم المواطنية. إنهم مشاركون في "كينونة" الوطن ولو انتسبوا الى فئات أو اتجاهات مختلفة. فأي انتقاص من كرامة أو حقّ أحد الأبناء، يعرّض للخطر كينونة الوطن في جوهرها، وليس فقط في شكلها. إن معرفة مقومات وجود "الكيان" الوطني هي مدخل لصياغة نظام يهدف الى "تكاؤن" بين أبناء الكيان الواحد (الوطن) ، أي أن "يكونوا معاً" ("To be"," Etre") لا أن "يملكوا معاً" ("To Have", "Avoir") حصصاً وأسهماً وحقوقاً مختلفة ضمن نظام "شراكة" بحسب ما توحي به كلمة "التعايش" (التزواج المتعاقد عليه) أو "العيش المشترك" (في تقاسم الحقوق في الوطن والمواطنية) ، بل أن يعوا أنهم أبناء مصير واحد. فهل نعي؟