طبابتنا

استراتيجية جديدة في الطبابة العسكرية: العمليات الصعبة نحن لها
إعداد: روجينا خليل الشختورة

يشهد المستشفى العسكري المركزي في السنوات الأخيرة تطورًا غير مسبوقٍ على مختلف المستويات، لا سيما في ما خص إجراء معظم العمليات النوعية الكبيرة والمتخصصة ذات التكلفة العالية، في غرفها المُستحدثة والمجهزة بأفضل التقنيات. 

إنّها الاستراتيجية التي تتّبعها الطبابة العسكرية مؤخرًا، يقول رئيسها العميد الركن ماهر أبو شعر، ففي ظل الاكتظاظ الذي تشهده، باتت تحوّل العمليات الصغيرة والسهلة التي لا تتطلب مستلزمات طبية إلى المستشفيات المتعاقدة، وتقوم بإجراء تلك التي تحتاج إلى معدات مكلفة في المستشفى العسكري المركزي، وبذلك تحقّق وفرًا كبيرًا في الفاتورة الشهرية على الرغم من الغلاء المستجد.

 

من ضمن هذه العمليات النوعية التي باتت تُجرى في المستشفى، وللمرة الأولى لمرضى من عمر ١٦ سنة وما فوق، عمليّتا زرع أو تبديل جهاز Vagus Nerve Stimulation (بطارية .V.N.S) لتحفيز العصب الرقم ١٠ لدى مرضى داء الصرع Epilepsy، وعملية تبديل جهاز Deep Brain Stimulation (بطارية .D.B.S) لتحفيز الدماغ لمرضى الـ Parkinson.

فالذين يعانون هذَين المرضَين ولا يتجاوبون مع العلاج التقليدي بالأدوية، يحتاجون إلى عمليات تمكّنهم من العودة نوعًا ما إلى حياتهم الطبيعية.

 

حالة صعبة

هدى مثلًا، سيدة في الثلاثينيات من عمرها، أم لثلاث بنات، تعاني منذ صغرها مرض داء الصرع، لم تترك طبيبًا ولا علاجًا بالأدوية إلا وجربته، وعلى الرغم من ذلك ظلت تعاني خللًا في نقل الإشارات الكهربائية داخل الدماغ، ونوبات متكررة من الحركة اللاإرادية وفقدان التركيز والوعي والقدرة على الكلام... «ساءت حالتي كثيرًا، تقول، ولم أعد أقوى على القيام بواجباتي المنزلية وواجباتي كأم»

عرض زوجها الرقيب مصطفى حالتها على الطبابة العسكرية، فاجتمعت لجنة مختصة على رأسها البروفسور الجراح المتعاقد رونالد موسى، الاختصاصي في جراحة الدماغ والأعصاب، وقررت أنّه يجب زرع جهاز .V.N.S لتحفيز العصب العاشر لديها، وهذا ما حصل. 

يوضح البروفسور موسى لـ«الجيش» أنّه في حالة صعبة تمامًا مثل حالة هدى، يجب أن يخضع المريض لجراحةٍ هي عبارة عن زرع جهاز تحت الجلد أمام منطقة الصدر ووصله بالعصب الرقم ١٠ في الرقبة، إذ يقوم بالتنبيه لحدوث نوبات ويحاول إيقافها قبل حدوثها، وإذا ما حصلت يخفّف من حدّتها. تستغرق هذه العملية الجراحية حوالى الساعة والنصف، ويبيت المريض ليلة واحدة في غرفة عادية قبل خروجه بنتيجةٍ جيدة وسلامة تامة ليستعيد تدريجًا نشاطه الطبيعي.

 

وفر ملحوظ

هذا النوع من العمليات كانت تحوّله الطبابة إلى المستشفيات المتعاقدة، يقول البروفسور موسى، غير أنّ الكلفة الكبيرة التي باتت تتقاضاها تلك المستشفيات دفعت الطبابة إلى إعادة النظر في إمكان الاستحصال على مستلزماتها بأسعارٍ خاصة للجيش وإجرائها في المستشفى العسكري المركزي.

تراوح كلفة الجهاز الكهربائي المحفّز ما بين ٢٥ و٢٧ ألف دولار أميركي، وتضاف إلى ذلك كلفة الإقامة في المستشفيات المدنية لا سيما الجامعية منها، ما يجعل المبلغ الإجمالي كبيرًا جدًا. وقد استطاع الجيش تأمين الأجهزة بأسعارٍ خاصة، إذ بلغت كلفة الجهاز الواحد ١٦ ألف دولار أميركي تقريبًا، وباتت هذه العملية تُجرى في غرف عمليات المستشفى العسكري المجهزة بأحدث التقنيات تحت إشراف طاقم طبي متخصص، وبعد إجراء العملية يبقى المريض في الغرف المعدة لاستقباله والاهتمام به على أكمل وجه... وبذلك تكون الطبابة العسكرية قد حقّقت وفرًا بحوالى ٣٠٪ من كلفة العملية نفسها في مستشفى مدني.

 

لولا المؤسسة...

«كلفة هذه العملية باهظة جدًا»، تقول هدى، «ولولا المؤسسة العسكرية والمستشفى العسكري اللذين تكبّدا كل التكاليف، لما استعدتُ نشاطي وعدتُ نوعًا ما إلى حياتي الطبيعية. النوبات أصبحت قليلة جدًا، باتت حالتي أفضل بكثيرٍ، أشكر الجيش وقائده وأدعو الله ليلًا نهارًا بأن يحميه لا سيما في هذه الظروف الصعبة التي نمر بها... الجيش بالنسبة لي ولعائلتي خط أحمر، فهو بارقة الأمل الوحيدة الباقية لنا.»

أما بالنسبة للعمليات الأخرى التي باتت تُجرى في المستشفى العسكري أيضًا، كعملية تبديل جهاز .V.N.S فهي أبسط من زرعه، إذ يكون المريض قد أجرى عملية الزرع منذ ثلاث أو أربع سنوات، فيقوم الطبيب بإبدال الجهاز (البطارية الفارغة) القديم بآخر جديد خلال نصف ساعة فقط في قسم جراحة اليوم الواحد.

وينطبق الأمر نفسه في حالة تبديل جهاز .D.B.S لتحفيز الدماغ لمرضى الـ Parkinson الذين يكونون قد خضعوا سابقًا لعملية زرع أسلاك في الدماغ موصولة على جهاز (بطارية) يفرغ مع الوقت فيتم تبديله بجهاز تحفيز جديد يخفّف من أعراض المرض، التي تُراوح بين رجفة وتشنجات عضلية إلى صعوبة في المشي والتنقّل وصولًا إلى صعوبة في النطق والبلع...

هذا ما أكّده مريض الباركنسون جوزيف خوري (٦٦ عامًا، ابنته معاون في المحكمة العسكرية في بيروت) الذي يعاني حالة متقدمة من الشلل الرعاشي وصعوبة في النطق، ورغم ذلك، وبفضل الجهاز الذي بدّلته له الطبابة العسكرية مؤخرًا، استطاع أن يجمع قواه ويشكر الجيش الذي تكبّد كامل مصاريف عملية التبديل، فـ»لولا الجيش وتكبّده كامل الأعباء، تقول ابنته، ولا سيما في هذه الظروف الاقتصادية الصعبة التي نمر بها، لما استطعنا يومًا إجراء العملية لأبي.» 

قد يتعرّض المريض بعد هذا النوع من العمليات لمضاعفاتٍ بنسبةٍ تُراوح ما بين ١ إلى ٢٪ وقد يحتاج إلى عناية مشددة، بحسب البروفسور موسى، وبالتالي فإنّ قسم العناية الفائقة المتطور في المستشفى وطاقمه على أهبّة الاستعداد لأي طارئ قد يحدث لأي مريض.

 

عملية دقيقة في قسم المسالك البولية

في قسم جراحة المسالك البولية في المستشفى العسكري المركزي أجرى العقيد الطبيب الجراح محمد علوان، عملية زرع صمام اصطناعي للمثانة Artificial Sphincter لمريضٍ كان قد خضع لاستئصال البروستات بعد إصابته بالسرطان. ومن مضاعفات هذا الإجراء الطبي معاناة المريض السلس البولي (التبوّل اللاإرادي) بسبب تعطّل صمام المثانة لديه، وبما أنّ المشكلة عضوية ولا يمكن علاجها بالأدوية، كان لا بد من إجراء عملية استبدال الصمام بآخر اصطناعي ليعود المريض إلى حياته الطبيعية.

«إنّها المرة الأولى التي نقوم بهذا الإجراء الطبي في المستشفى العسكري، يقول العقيد الطبيب علوان، فمثل هذه العمليات كانت تُجرى في المستشفيات المدنية المتعاقدة، غير أنّ كلفة الصمام الاصطناعي العالية (حوالى الـ١٠ آلاف دولار أميركي)، دفعت الطبابة العسكرية إلى الحصول عليه بسعرٍ خاص للجيش، وقررت إجراء العملية في غرف عمليات المستشفى العسكري التي تضاهي غرف عمليات المستشفيات الجامعية، إن لم تكن أفضل».

يتقدّم المريض من الطبابة وهو بحالٍ حرجة، يصفها العقيد علوان بفقدان القدرة على التحكم في المثانة، إذ تُراوح بين تسريب البول من حين لآخر والشعور برغبةٍ 

ملحة في التبوّل بشكلٍ مفاجئ وقوي لدرجة عدم الوصول إلى المرحاض في الوقت المناسب... وهذه الأعراض تسبّب للمريض تقييدًا لنشاطه اليومي والعملي وتحدّ من انخراطه في المجتمع، فيكون محرجًا من الخروج مع الأصدقاء أو المشاركة في أي نشاط رياضي أو اجتماعي... إلى ذلك يمكن أن تسوء حالة المريض الذي يعاني السلس البولي لتظهر لديه مشاكل جلدية، مثل الطفح والعدوى الجلدية والقروح نتيجة لتعرّض الجلد للبلل باستمرارٍ، وقد يعاني المريض التهابات المسالك البولية. من هنا، تدرس لجنة طبية الحالة من كل جوانبها، قبل أن توافق قيادة الجيش على إجراء هذه العملية الصعبة والمكلفة.

 

«الله يديمو لأهلو وشعبو»

«كنت أعاني عدة مشاكل في المسالك البولية»، يقول السيد رفعت فخر الدين (ابنه الرقيب محمد)، البالغ من العمر ٦٩ عامًا. ويضيف: «أُجريت لي منذ أربع سنوات تقريبًا عملية اسئصال البروستات بسبب اكتشاف ورم خبيث فيها. وبعد معاناة طويلة من التبوّل اللاإرادي، ساءت حالتي كثيرًا، لا سيما بعد أن علمت أنّ الحل الوحيد هو إجراء عملية زرع صمام اصطناعي للمثانة وهي عملية مكلفة جدًا تفوق قدرتي وقدرة عائلتي. ولكن بعد التقدّم إلى الطبابة العسكرية، تمكّنت من إجرائها في المستشفى العسكري على يد العقيد الطبيب علوان، الله يوجّهلو الخير، وتكلّلت العملية بالنجاح. ١٠ آلاف دولار أميركي مبلغ كبير جدًا، تكفّل الجيش، حامل البلد والدّني كلّا، بكامل المبلغ، الله يديمو لأهلو وشعبو»

هذه العملية الدقيقة التي تستغرق بين الساعة والساعة والنصف، هي عبارة عن زرع جهاز يحتوي على صمام اصطناعي مماثل للصمام الخارجي لمجرى البول والمثانة، ويتصل بمضخةٍ تحت جلد كيس الصفن، إذ يكون الصمام الاصطناعي مغلقًا في الحالة العادية كل الوقت، وعند التبوّل يقوم بالضغط على زر التحكم لإفراغ السائل وفتح الصمام لمدة دقيقتَين وبعدها يغلق تلقائيًا. 

 

خطر المضاعفات

قد تفشل هذه العملية وتصل مضاعفاتها إلى ٣٠٪، فيضطر الطبيب إلى انتزاع الصمام الذي تم زرعه، غير أنّ العملية التي أُجريت في الطبابة العسكرية يمكن القول إنّها نجحت بشكلٍ تام، ولكن لتأكيد الأمر بنسبة ١٠٠٪ يجب أن يمر على إجرائها ٦ أشهر. أما اليوم وبعد شهرَين تقريبًا على خضوعه لها فيشعر السيد فخر الدين بفارقٍ كبير، وقد استعاد حياته الطبيعية وثقته بنفسه وعاد لممارسة كل نشاطاته اليومية...

لا تبخل المؤسسة العسكرية على أبنائها باهتمامٍ أو عناية، فهي الوفية لتضحياتهم والمُقدِّرة لأتعابهم وجهودهم. هم الذين يسهرون على أمن الوطن والمواطن، تسهر قيادتهم على تأمين حاجاتهم. وفي هذا الإطار تولي الطبابة العسكرية الدعم المطلق والمتابعة الحثيثة لتضمن أمنهم الصحي منذ انضوائهم في صفوفها وحتى آخر أيام حياتهم بعد التقاعد.