رحلة في الإنسان

الدماغ البشري وأسعار السلع
إعداد: غريس فرح

لماذا تستهوينا الأشياء الثمينة

جميعنا كبشر نهوى المساومة على أسعار السلع قبل ابتياعها، لكننا في قرارة أنفسنا نفضّل شراء السلع المرتفعة الأثمان. والباعة المتمرّسون بطباع الناس يعلمون ذلك جيداً، لذا، فهم يحاولون قدر المستطاع، الدوران حول هذا المحور بهدف تعزيز معنويات الزبائن من جهة، وتحقيق الربح المادي من جهة ثانية.
إن تقدير المنتجات الثمينة والإعجاب بها، يرتبط عموماً بتقدير الذات والثقة العالية بالنفس، وهذا يعود بحسب الباحثين الى عوامل بيولوجية خفيّة، ورثناها عن أجدادنا، وما زالت راسخة في أدمغتنا.
ما هي هذه العوامل، وكيف تُسيَّر التوجّهات البشرية؟

 

الدماغ مسؤول
حسب دراسة أعدّها البروفسور أنطونيو رانجيل من مؤسسة كاليفورنيا للعلوم التقنية، ونُشرت من ضمن محاضر أكاديمية العلوم الوطنية الأميركية، فإن الإنسان الذي يختار السلعة الغالية الثمن من بين سلع أرخص منها مطابقة لها من حيث النوعية، يفعل ذلك ليس لأنه معجب بها، بل نتيجة لتأثير سعرها في خلايا دماغه. وهذا بحسب الدراسة المشار اليها، يعود الى أسباب فطرية سنأتي على ذكرها.
واللافت أن البروفسور رانجيل كان قد دعم نظريته هذه بتجارب عملية وضعت النقاط على الحروف في ما يتعلق بانتقاء الأصناف والتعلّق بها، وخصوصاً في غياب المنطق السليم، والإعتماد على المشاعر الغرائزية.

 

ما هي هذه التجارب؟
التجارب المشار اليها، أجريت على مجموعة من الناس في أثناء  احتسائهم أنواعاً من النبيذ قدّمت لهم بأسماء وأسعار مموّهة. واللافت في الأمر أن أكثرية الذين خضعوا لهذه التجارب، إستساغوا أنواع النبيذ المصنفة بالغالية الثمن، على الرغم من عدم صحة التصنيف. واللافت أيضاً أن شعورهم بالمتعة في أثناء احتسائها كان شعوراً حقيقياً سجّلته الفحوصات الشعاعية لخلايا الدماغ. وهنا السر الذي حاول الباحثون الكشف عنه بطرق مختلفة.
في الواقع، كان البروفسور رانجيل قد أخضع حوالى عشرين متطوّعاً للتصوير الدماغي بالرنين المغنطيسي، واستخدم في أثناء التصوير خدعة تقنية أتاحت له مراقبة سريان الدم في القشرة الصدغية الدماغية الوسطى، وذلك خلال احتساء المتطوّعين النبيذ. وعُرف أن أنواع النبيذ المقدّم كانت جميعها مصنوعة من نوع العنب نفسه، علماً أن الأسعار راوحت ما بين خمسة دولارات وتسعين دولاراً بحسب جودة كل نوع. وعُرف ايضاً أن فريق الأبحاث كان يغش، كما سبق وأشرنا، في تحديد الأسعار للمتطوّعين. والمدهش في الموضوع، أن الصور الشعاعية المأخوذة في أثناء التجارب أظهرت إزدياداً ملحوظاً في المنطقة الدماغية المذكورة، وذلك بالتزامن مع تحديد سعر مرتفع للنبيذ المحتسى. وهنا لا بد من الإشارة الى أن المنطقة الدماغية المعنيّة بالبحث هي الجزء الدماغي المسؤول عن الإستجابة لتصاعد النشاط الدماغي، وخصوصاً خلال تسجيل مشاعر الإختبارات الممتعة. فما هي الحقيقة وراء ذلك؟

 

الإحتمالات المطروحة
الحقيقة التي أظهرتها الدراسة إكتنفها بعض الغموض لارتباطها بعدد من الإحتمالات، علماً أن فريق الدكتور رانجيل إختصرها باحتمالين أساسيين، نورد أهم ما ضمّنهما من آراء وتحاليل.
إن إنحياز العقل البشري الى النوعية الأفضل، إرتبط منذ نشوء الخَلق بعملية التعلّم الفطرية الهادفة الى تحسين فرص بقاء النسل. وحسب إعتقاد الدكتور رانجيل، فإن ميكانيكية التعلّم هذه كانت من أهم العوامل التي ساعدت أجدادنا على الإختيار الصحيح عن طريق التفرقة بين السيىء والجيد والأجود. ومع تطوّر المجتمعات وبداية إستخدام المال، بدأت الجودة ترتبط بالأسعار، الأمر الذي أرسى هذا المفهوم الجديد في الأدمغة المعاصرة. وعلى هذا الأساس أصبح سعر السلع جزءاً لا يتجزأ من عملية الإنتقاء الفطرية لاختيار الأفضل.
على كل، فإن ارتباط سعر السلع بالنوعية والجودة قد يتخطى من حيث المبدأ عملية الإنتقاء الى اعتبارات بشرية لا حصر لها وفي مقدّمها، حب الظهور، وإرضاء الذات، والتقرّب من الآخرين عبر صرف الأموال، وخصوصاً من الجنس الآخر. وهو واقع يخدم في مضمونه حب البقاء عبر التطوّر والتناسل.
أما الإحتمال الثاني الذي أوردته الدراسة، فيتمحور حول ما يسمى بـ«ادعاء التقييم» أو «الحكم على الجودة» وهي ميزة بشرية لازمت الإنسان منذ فجر الحضارات ونجمت عنها عادات عصرية مختلفة من أهمها: حب الإقتناء، وجمع الأشياء الثمينة والقيّمة.
قد لا يكون مصطلح «إدعاء التقييم» هو التعبير الصحيح عن هذه الحالة الشائعة، لأن معظم المتعلّقين بجمع المقتنيات أو التحف لا يدّعون الحكم على جودتها، بل يرونها جميلة بالفعل، ويسعون الى إقتنائها. والمثال على ذلك جامعو اللوحات الجد عادية والتي يرونها جميلة ويبتاعونها بأسعار باهظة لأسباب مختلفة منها: التوجّهات والميول الشخصية، إضافة الى التأثر البدائي بوقع السعر المرتفع. هذا التحليل لتأثير الأسعار في الدماغ البشري قد يزرع بعض الوعي في نفس المستهلك، وقد يعتبر عاملاً فعّالاً في برمجة مقترحات التسويق والترويج لسلع من قبل التجار.
على هذا الأساس يصبح على كل من التاجر والمستهلك إرساء التوازن المطلوب وفق مقاييس الطبيعة من جهة، والوضع الإقتصادي من جهة ثانية.
لكن... هل بإمكاننا إخضاع مشاعرنا البدائية لأحكام المنطق في وقت تطغى فيه هذه المشاعر على العقول وتحكم سيطرتها؟ وهل بإمكان المتحكم بالعقول والجيوب عدم إستغلال هذه الثغرة البشرية لمصالحهم الشخصية؟
ما بين الجيوب والعقول والمشاعر، يكمن الجواب!