العولمة وحقوق الإنسان وتوجّهات التربية والتعليم

العولمة وحقوق الإنسان وتوجّهات التربية والتعليم
إعداد: د. منصور عيد
استاذ في جامعة اللويزة، أمين الشؤون الثقافية في اتحاد الكتاب اللبنانيين

العولمة روحية العصر

العولمة عنوان شغل إهتمامات الانسان المتنوعة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والاجتماعية والثقافية والتعليمية خلال السنوات العشر الأخيرة من القرن الماضي ولا يزال يتفاعل تنظيرًا وتطبيقًا. فبعد تفكّك بنية الاتحاد السوفياتي وانهياره، والإنتقال من ثنائية النظام العالمي إلى أحادية متمثَّلة بالولايات المتحدة الاميركية، بشكل أساس، برزت في الفكر الإنساني، بل في الفلسفة الكونية خطوط عالم جديد، أو نظام جديد للعالم عرف تحت إسم العولمة. هذا النظام يحمل في إيديولوجيته نزعة كونية شمولية تبعد عن صيرورة التاريخ النزعات الأممية والإقليمية والمحلية، كالقومية والعنصرية والإثنية والأصولية والطائفية والمذهبية التي عنونت محطات مهمّة من صراعات الإنسان عبر التاريخ، وشكّلت روحية حضارية لفترات زمنية مختلفة، وأسهمت في صياغة مصائر الشعوب، وفي توزيع الحدود الطبيعية والسياسية للأرض.

تعدّدت التفسيرات والشروحات والتحديدات لمفهوم العولمة، فهي على حداثتها في التداول المعرفي، ضمن سياق الزمن الحضاري والفكري للانسانية، قد أنتجت مادة غزيرة للجدل الفكري والتنظير، وللدراسات الإحصائية الميدانية. ولعل تكنولوجيا العصر الإعلامية التي فتحت آفاق التواصل الكوني كانت وراء هذا الغليان الفكري حول هذه الروحية الجديدة.

إن هذا الغليان يأخذ مناحي عدة وعلى مستويات مختلفة، تشمل السلطات السياسية الحاكمة ومعارضيها، والحركات الأصولية الدينية والإثنية التي تتألّف في نطاق الرفض والممانعة للأنظمة الحاكمة، إضافة إلى النخبة الثقافية والحركات الطلابية والعمالية والشعبية والنسائية، وأنصار البيئة والمدافعين عنها، وأولئك الساعين إلى إيجاد ظروف صحية عالمية أفضل، ومحاربة الأوبئة والأمراض، والناشطين في مجالات حقوق الانسان العامة وصيانة الحريات، ومخططي برامج إنمائية إقتصادية وتربوية وإجتماعية وثقافية شاملة، في أية ناحية من الأرض.

هذه الانشطة الإنسانية تبقى في جوهرها ظواهر تاريخية طبيعية ناتجة عن صراع الأقوياء للسيطرة على مقدرات الأرض بالطرق المتنوّعة شتى، وهذه القوى تكون عسكرية أو إقتصادية، تسعى إلى استغلال الطاقة البشرية كمًّا ونوعًا، كونها القوة الداعمة للإقتصاد العالمي، أو تكون قوى سلمية داعمة للإنسان روحًا وفكرًا وثقافة وحرية وديموقراطية، وتهدف إلى حماية البشرية من الإستغلال والإحتكار.

غير أنه لا يكفي أن ننظر إلى العولمة، التي أثارت هذا الغليان الكوني، وكأنها ظاهرة غريبة تجتاح العالم وتهز استقراره، بل علينا أن نضعها ضمن سياق الزمن المتحرّك و المتطوّر باضطراد وحتمية. وصيرورة التطوّر التي نعيش فيها قد أوجدت إيديولوجيات أخرى مع المكوّنات المادية والتقنية والروحية التي تتوافق مع فلسفتها. وهذه جدلية تاريخية حتمية كوّنتها جميع الظواهر المؤثّرة في حركة تغيير الكون. فالثورة الصناعية قد أنتجت إيديولوجيات أسّست لقيام الدول الصناعية الكبرى بعدما كان العالم مقسّمًا إلى إقطاعيات محدودة. أغرقت تلك الإيديولوجيات العالم في الحروب والاستعمار، وكان الهدف منها تلبية حاجة الصناعة المتنامية إلى أسواق تستهلك الفائض من إنتاج المصانع وتؤمّن الموارد الطبيعية الأوّلية للصناعة. أما اليوم فيرى بعض المحلّلين "أن الأرض تشهد عهدًا جديدًا من الغزو أو الاحتلال يشبه إلى حد بعيد زمن الاستعمار. لكن الفرق بين الأمس واليوم أن الدول كانت الطرف الاساسي في الفترات الماضية، أما اليوم فأصبح هناك الشركات المتعدّدة الجنسيات أو التكتّلات الاقتصادية والمجموعات الصناعية والمالية الخاصة." (1)

    إن العولمة وما حملته من صفات كونية، قد أسّست لها ظاهرة دولية وحدوية تمثّلت بشرعة عالمية هي شرعة حقوق الانسان. ذلك أن الدمار الذي سبّبته حروب القرن الماضي قد نتج عنه فكر كوني رافض، ظهرت على أثره نزعة وحدوية لدى الدول، عرفت بإسم الأمم المتحدة وهي التي بشرت بعدالة أكبر على الأرض، وأطلقت التشريعات العالمية لحقوق الإنسان. وقد أسهمت هذه النزعة الإنسانية السلمية في تخفيف حدة الصراع الذي أوجدته الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، أو بين المعسكرين الليبرالي الحر والإشتراكي الموجّه والذي استمر على مدى أكثر من سبعين عامًا، فارتبطت بهما هوية الشعوب السياسية والفكرية.

إن هذه التحوّلات الأساسية في بنية الفكر العالمي وفي أنظمته وسياساته حتمية حضارية لوجود الصيرورة التغييرية، وتؤكّد أن الجدلية بين الإنسان والكون طبيعية ومستمرة ولا تتوقّف عند حدود زمن معيّن. والإنسان في هذه الجدلية يستغلّ فكره وعلمه وطاقته وقدراته وعمله وروحه لكي يحقّق هدف وجوده على هذه الارض، أو ما يراه مناسبًا لانسجام وجوده مع عناصر الوجود الكلي.

 هذا في المنحى الفكري التنظيري، أما في الواقع العملي فإن غاية العولمة هي في الأساس ذات أبعاد إقتصادية، تهدف إلى استغلال خيرات الارض واستثمار الثروات من قبل الدول الغنية التي تسعى إلى تحقيق مصالحها ورفاه شعوبها على حساب الدول الفقيرة والضعيفة. وقد أجاز أربابها لأنفسهم حق التحكّم، إقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا، بمصير شعوب العالم الثالث. وبالفعل فقد اعتمدت الولايات المتحدة، بشكل خاص، منهجيات تطبيقية متنوّعة تؤكد نزعة السيطرة، فعقدت تحالفات إقتصادية وسياسية وأمنية وعسكرية مع الدول الفقيرة بحجّة تنميتها وتطويرها، ما جعل هذه الدول رهينة استثمارات طويلة الأمد تمتد إلى عشرات السنين، تُستنفد في خلالها خيراتها الطبيعية بعدما تغرق في المديونية نتيجة القروض التي تحصل عليها من الدول الغنية للمحافظة على مستويات مقبولة في معدلات التنمية المستمرة في داخل قطاعاتها الاقتصادية والاجتماعية والصحية والبيئية والتعليمية والثقافية.

غير أن هذه الظاهرة الاجتياحية السلطوية للعولمة لن تبقى محصورة في نطاق حاجات الإنسان المادية بل تتعداها إلى النطاق الثقافي، ذلك "لأنها بمعناها الراهن تقتات من الإقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة ( 2). من هنا فإن العالم بكامله يتأثّر سلبًا أم إيجاباً، بهذه الروحية الكونية الجديدة. والنتيجة أن الأمر ملحّ جدًا للبحث عن تفعيل إنساني للطاقة البشرية لكي لا تبقى عاجزة ومشلولة تتلقى الضربات ومفاعيلها السلبية بدلاً من أن تسعى إلى إيقافها والتصدّي لها. وهذا هو الدور الكبير الذي ستقوم به مكوّنات العلم والمعرفة والثقافة والأصالة والتربية السليمة والجودة في الإعداد و الإنتاج، إضافة إلى الدور الكبير الذي سيتحقّق من خلال ممارسة حقيقية لشرعة حقوق الإنسان التي تنادي بتطبيق الديموقراطية الشمولية، والتي تعني التوسّع في مفاهيمها لتشمل، إضافة إلى المضمون السياسي والاقتصادي، المفاهيم التربوية والثقافية.

 

حقوق الانسان

 إن روح الرفض للتدمير الذي حصل خلال الحربين العالميتين ، في النصف الاول من القرن العشرين قد تجسّدت في أواخر الأربعينات بشرعة عالمية تكرّس حقوق الانسان. ومن الملاحظ أن تأثيرها كان جديًا وفاعلاً على نمط سياسي، ظهر في العالم القديم واستمر حتى أيامنا هذه، أعني به الديموقراطية التي التزمت حقوق الانسان، وشكلت معها ثوابت لأنظمة العالم الحديث. ففي الإعلان العالمي لشرعة حقوق الانسان تأكيد لهذه النزعة الكونية. تقول: "إن الجمعية العامة تنادي بهذا الإعلان العالمي لحقوق الانسان على أنه المستوى الذي ينبغي أن تستهدفه الشعوب والأمم كافة حتى يسعى كل فرد وهيئة في المجتمع، واضعين على الدوام هذا الإعلان نصب أعينهم، إلى توطيد احترام هذه الحقوق والحريات عن طريق التعليم والتربية واتخاذ إجراءات مطّردة، قومية وعالمية، لضمان الاعتراف بها ومراعاتها بصورة عالمية فعالة بين الدول الأعضاء ذاتها وشعوب البقاع الخاضعة لسلطانها".

هذا التلازم بين الديموقراطية وحقوق الإنسان واضح وصريح في توجّهات الأمم المتحدة التشريعية والعملية والتطبيقية. فعلى المستوى التشريعي، تؤكّد الشرعة بشكل قاطع هذا التوجّه في موادها الأساسية، وفي البروتوكولات التي صدرت بعد ذلك لشرح مفاهيم التشريعات وتنفيذها. وقد أكّد الأمين العام السابق للأمم المتحدة، بطرس غالي، هذا التلازم، في افتتاح المؤتمر العالمي لحقوق الانسان المنعقد بتاريخ 14 حزيران\يونيو 1993 إذ قال: "لم يعد من الممكن فصل الديموقراطية عن حقوق الإنسان، بل لقد أصبحت الديموقراطية المشروع السياسي الذي يندرج فيه ضمان حقوق الإنسان وحمايتها". أما على المستوى التنفيذي فإن الممارسة التطبيقية تظهر الكثير من الإيجابيات على الرغم من التحفّظ تجاه بعض المواقف التي تدعم توجّهات القوى الكبرى الفاعلة في النظام السياسي العالمي.

وحقوق الانسان في عناوينها الكبرى جملة قيم إنسانية حضارية تقوم على العدل والحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والسلام، وكما جاء في شرعتها: " إن الأشخاص كلّهم ولدوا أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميرًا، ويجب أن يتعاملوا مع بعضهم البعض بروح أخوية"

ونتيجة لتفاعل هذه العناوين التي تطرحها الشرعة مع التطور في مفاهيم الديموقراطية، وينصبّ الإهتمام العالمي على الإنسان بكل مكوّناته وأبعاده المادية والثقافية والإجتماعية، على اعتباره الهدف الأول الذي تعمل من أجله خطط التنمية المستدامة التي أطلقتها الأمم المتحدة لإنماء العالم والتي توسّع مفهومها من المؤشّرات المادية والمستوى المعيشي العام وخدمات التعليم والصحة والإسكان، إلى توفير ضمان للحريات السياسية والإقتصادية والإجتماعية، وخلق فرص الإبداع وتنشيط التواصل والإعلام، وتبادل الخبرات، والتنوّع الفكري والروحي، ومراعاة خصوصيات الشعوب في قيمها الحضارية وفي عاداتها وتقاليدها.

 

  I- التقاطع الإيجابي بين العولمة وحقوق الانسان

في خضم هذه النزعة الكونية المتمثّلة بهاتين الفلسفتين، أين أصبح الإنسان في حقوقه و في عولمته؟

تُطرح مجموعة من الأفكار التي تحتاج دائمًا إلى ممارسة سليمة بعيدة عن الاستئثار والسيطرة، منها:

  1. الأرض ملك للإنسان دون تمييز بين عرق ولون ودين ومذهب ولغة. هذا يعني بعثًا للروح الإنسانية الواحدة الشاملة، وتأصيلاً لها في النفوس، وتكثيفًا للروح الخيّرة. ذلك أن الوحدة تقرّب الحضارات وتبعد عنها الصراعات. ومن الناحية التطبيقية لهذه الإيجابية تصبح ثروات الأرض حقًا لجميع أبناء الارض، ما يعني إفادة الدول الفقيرة التي تعاني أزمات الجوع والفقر والحرمان، من مساعدات الدول الغنية. هذا ما يتحقّق عمليًا فيما يعرف بإسم إيديولوجيا التنمية المستمرّة التي ترعاها الأمم المتحدة وتؤدّي من خلالها عملية إنماء واسعة تشمل الدول الفقيرة. ويعني أيضًا فرضَ نوع من النظام العالمي يحدّ من الهدر في الثروات الطبيعية على أنواعها، ما يُعوّض من التناقص المستمر في الغذاء أمام التزايد الهائل في إعداد البشر. كذلك يعني اعتماد التكنولوجيا الحديثة، ليس في أنظمة الإنتاج فحسب، بل في أنظمة الحماية والوقاية تجاه هدر الطبيعة والقضاء على البيئة.
  2. إنفتاح إنساني عالمي يلغي الحدود الطبيعية والحدود البشرية والثقافية، فتتحوّل الأرض إلى قرية صغيرة في مفهوم الإتصالات والتواصل، وفي توزيع المعلومات والمعارف، أدّى ذلك إلى تعميم الحس العالمي بحقوق الانسان. وهذا ما يتحقّق إلى حد بعيد من خلال أنظمة الإتصال المعلوماتي والانترنت وتطوّر وسائل الاعلام، أو من خلال التبادل الفكري بين قطاعات المعرفة الأكاديمية العالية، أو الذي يتحقّق من خلال المؤتمرات الدولية واللقاءات التي تهتم بسلامة الارض والحفاظ على البيئة، وحقوق المرأة، وحماية الطفولة، ومحاربة الإرهاب، والتنديد بالعنف، والحد من انتشار الأمراض والأوبئة، وتبادل الخبرات...
  3. إستثمار القدرات البشرية إلى أقصى حدود، وفرز نوعي للإبداع الإنساني، أي فتح المجال للطاقات البشرية المتفوّقة كي تستثمر بشكل أفضل، ومنع الهدر في هذه الطاقات. فالنبوغ والتفوّق لن يكونا مقتصرين على الإنسان الذي يعيش في المجتمعات الثرية وحسب، بل هما حق لكل إنسان حتى في المجتمعات الفقيرة التي لا تتوافر فيها الظروف المناسبة لإظهار هذا الإبداع. وهذا ما يعرف بإسم ديموقراطية الثقافة التي تفرض حق التحصيل والإمكانية المادية وتوافر البنى الثقافية للجميع. وكلّها تضمن حقوق الإنسان الثقافية، وحق الإبداع والعمل وتكافؤ الفرص.
  4. فتح الاۤفاق الثقافية وتفكيك العنصريات الضيقة وخلق ديموقرطية معرفية وفنية. وليس بعيدًا عن هذا الموضوع ما تحدّث عنه "ماسودا" أحد العلماء اليابانيين، الذي آمن بقدرة الإنسان الكاملة على تحقيق السلام العالمي من خلال دين يؤاخي بين البشر جميعًا فيعيشون في سلام معرفي، بعد أن تؤدّي تكنولوجيا المعلومات دورها في إحداث علاقة إنسانية تربط البشر بعضهم ببعض، وتجعلهم أكثر قدرة على توجيه مستقبلهم وتحقيق أهدافهم، وذلك بإلغاء الحواجز الثقافية، وأهمها اللغة، واستحداث لغة تفاهم مشتركة بين الجميع. وهذا وجه من وجوه عولمة الثقافة واللغة. وفي هذا المجال نفسه يقول البروفسور " ديفيد روثكوب" أن الثقافة تستخدم من قبل منظمي المجتمع، أي السياسيين ورجال الدين والأكاديميين وأقطاب العائلات، لفرض النظام والأعراف التي تتغيّر بتغيّر العصور، لكن ما لا يعترف به أحد هو أن الثقافة تستخدم أيضًا لتبرير الحروب والفظاعات والسلوكيات اللاإنسانية." ويتابع : " إن كل هذه المآسي قد تجد لها حلاً في العولمة لأنها تسدّ الفجوات الثقافية وتؤمّن تعايش الشعوب المختلفة وتستند إلى فكرة التسامح" (3)
  5. إن التطوّر التكنولوجي العالمي القائم على صناعات عملاقة كالكومبيوتر والالكترونيات والاتصالات والمعلوماتية سيرغم الأسواق المغلقة على الانفتاح، ذلك أن قواعد اللعبة الرأسمالية التقليدية المرتكزة على امتلاك الأشياء وصناعتها قد تغيّرت لمصلحة ركيزة إقتصادية جديدة تعطي للإنسان قيمته الفعلية وهي المعرفة. فالابداع لم يعد في النجاح فحسب بل في تحقيق التفوّق المعرفي.

فالعولمة من هذا المنظار هي تأمين مساحات أوسع للحرية محليًا وإقليميًا ودوليًا، وذلك بإرادة إنسانية شاملة، تتضامن لتحقيق هذه الحريات وللتعاون الدولي، كما أنها تحقّق قوة ردع سياسية وإنسانية ضامنة لها، وصهر الإنسان في نظرة شمولية تتخطّى الحدود الضيّقة المقيّدة.

 

II - التقاطع السلبي بين العولمة وحقوق الانسان

أما في الوجوه السلبية التي تثير الحذر حتى التشاؤم، فالمشكلة تتجسّد في تطبيق العولمة واقعيًا. المشكلة هي في عدم أخذ الطروحات الإيجابية من زواياها الجدية التي تحمي حقوق الانسان أينما وجد على هذا الكوكب. فالإحصاءات والوقائع تتّهم هذا النظام الجديد بضرب حقوق الإنسان وتغليب المصالح المادية للقوى المتسلّطة على أي اعتبار آخر. ولعلّ في قول الأمين العام السابق للأمم المتحدة ، بطرس غالي، توضيحًا لهذا الحذر. يقول: "أعجب لهذا النظام العالمي الجديد الذي سيحوّل العالم إلى مجموعة دويلات فقيرة وقلة من الاغنياء." ولعله قد بنى توقّعاته هذه على الممارسات العدوانية التي تنفّذها الدول المتسلّطة على الدول الصغيرة الضعيفة والفقيرة، أو على انعدام العدالة في المفهوم السياسي الدولي. ولعل ما تعانيه البلدان العربية في قضية فلسطين وفي التسلّط الاجنبي على خيراتها هو البرهان القاطع لهذه العولمة المخيفة.

      أما أبرز السلبيات التي أصابت الواقع الإنساني من جرّاء إنشاء العولمة فهي الآتية:

  1. إنقسام العالم إلى مجتمعات شديدة الثراء تتحقّق فيها إلى حد كبير مقوّمات حقوق الانسان، ومجتمعات أخرى بالغة الفقر، يعاني الناس فيها فقدان الأسس الأوّلية للعيش، كالطعام والسكن والعلم والإستشفاء، فكيف بالحقوق الأخرى، كالحرية والعدالة والمساواة والثقافة وفرص الانتاج والابداع؟ إن إحصاءات الأمم المتحدة تشير إلى ارتفاع كبير في نسبة الفقراء والعاطلين عن العمل في السنوات الأخيرة ( أكثر من مليار وثلاثة ملايين نسمة )
  2. إستباحة حقوق الإنسان باستباحة التصرّف بالبشر وكأنهم وقود لتنفيذ مفاهيم العولمة. يقول "والتر مايسون" أحد أبرز الناشطين من أجل حقوق الانسان في الولايات المتحدة: " إن النظام العالمي الجديد ليس بحاجة إلى هؤلاء الذين يعيشون في دول العالم الثالث". أما السبب وراء هذه اللامبالاة بالعالم الثالث فيعود إلى النظرة الاقتصادية المحض التي تعتبر الانسان رقمًا مستهلكًا، ترتفع قيمته بارتفاع قدرته على الشراء وتغذية صناديق المال الكبرى. فكأن العالم هنا مكان للتسويق والاستهلاك، وما سوى ذلك فلا أهمية له. ويرى بعض المحلّلين أن العولمة غزو جديد للأرض يشبه زمن الاستعمار، لكن الفرق بين الأمس واليوم هو أن الدول كانت الطرف الأساسي في السيطرة الاستعمارية، أما اليوم فقد أصبحت المؤسّسات الإقتصادية والتكتّلات المالية والمجموعات الصناعية هي المستعمر الذي أوجد، ولأول مرة، أسيادًا قلّة يملكون أقوى نفوذ.
  3. إن التجميع النوعي للطاقات البشرية في الدول الثرية واستقطاب الأدمغة، على ما فيه من الإيجابيات أحيانًا، من أخطر القضايا التي تعانيها الدول النامية، فهجرة الأدمغة الناتج عن عدم توافر فرص العمل في هذه الدول يعيق برامج  التنمية فيها، ويحدّ من قدرة التخلّص السريع من التخلّف. وقد رأى الأمين العام للأمم المتحدة "كوفي أنان" ظاهرة التخلّف هذه في مجال التقنية إذ قال: " إن الفجوة التقنية بين الدول الغنية والفقيرة تتسع، مع أن جهودًا كثيرة بذلت لمساعدة الدول النامية على دخول الاقتصاد العالمي، عدد من الناس ما زالوا منفصلين عن المجتمع العالمي الذي أصبح أكثر تشابكًا" (4)
  4. الاحتكار الاقتصادي المعولم جعل الاقتصاد العالمي يتحوّل من الرأسمال الفردي إلى نظام المجمعات الكبرى. ففي الستينات من الفرن الماضي كان عدد الشركات المتعدّدة الجنسيات ستة آلاف شركة، وقد أصبح في السنوات الأخيرة ما يزيد على سبعة وثلاثين ألف شركة تتمركز بنسبة 85%  في الولايات المتحدة الاميركية. وهذا النوع من الاحتكار الاقتصادي يحوّل العالم إلى سوق واحدة تذوب فيها الأسواق المحلية والوطنية والإقليمية، وتعجز فيها الدول الفقيرة عن المنافسة وحماية إنتاجها الوطني. ومشكلات الدول الاسيوية الاقتصادية التي ظهرت في السنوات الأخيرة ليست بعيدة عن هذا الواقع. ومن نتيجة هذه الاحتكارات أيضًا، تتم عملية بيع كبيرة للأراضي في الدول الفقيرة. أما الشاري فهي الشركات الصناعية الكبرى التي تستعمل هذه المساحات لطمر النفايات الصناعية، أو لإنشاء مجمعات صناعية عملاقة، لا تستفيد منها شعوب الدول الفقيرة التي أوقعتها الأمية في عجز تكنولوجي يحدّ من طاقاتها الإنتاجية البشرية. والأكثر خطرًا من ذلك أن البيئة في هذه الدول تتعرّض لتدمير فعلي قاتل. يؤكّد كتاب: " أحلام عولمية " للكاتبين" ريتشارد بارنت وجان كافاناغ": إن عشرات السلع الغذائية الفاسدة التي تنتجها الشركات الاحتكارية، والتي ترفضها المجتمعات الغنية، تصدّر إلى اسواق العالم الثالث". وأمام هذا الواقع يقول " أوليفييه دولفونس " في كتابه "العولمة 1997" : " إنها جحيم يقود العالم إلى الكارثة"
  5. على الصعيد الثقافي يبدو أن التجانس بين أطراف الثقافات لا يسير بالسرعة نفسها كما في الاقتصاد، فما نشهده من تبادل ثقافي يبقى سطحيًا أمام الخصوصيات الوجدانية للشعوب التي تشكّل العمق الروحي الأقل ديناميكية في التحرّك والصيرورة. وهذا يعني صراعًا حتميًا بين الثقافات سيؤدّي إلى تضعضع قيمة الإنسان وإلى الخلل في روحية حقّه في الإيمان والمعتقد. فالهوية الثقافية مبنيّة على اللغة والدين والعرق، وهي الهوية الخاصة الأكثر ثباتًا التي تتكوّن منها روابط الثقة والتضامن بين الأفراد، ورجال الأعمال والمستثمرون قلّما يعترفون بهذا الجانب الخطير من حياة الشعوب. والملاحظ هنا أن المشكلة لا تقتصر على الدول الفقيرة فحسب بل إنها مشكلة الدول الأوروبية أيضًا، إذ أن فرنسا مثلاً تشكو من خطورة " الغزو الثقافي الاميركي ومطاردته للفرنكوفونية في جميع مناطق العالم" كما أعلن ذلك عدد من المسؤولين الفرنسيين. أما فقدان الخصوصيات الثقافية فإنه سيؤدّي إلى ظهور وجه حضاري واحد ذي بعد ثقافي أحادي لا مجال فيه للحرية والاختيار، فتفقد الإنسانية ميزة مهمّة وهي التعدّدية الحضارية لتصبح مشدودة بكل عناصرها المادية والروحية إلى نقطة الاستقطاب الأقوى. ولعل التقهقر الذي يصيب لغات العالم المحلية، ويصيب الثقافات الوطنية هو أبرز مظهر لهذه الحالة التي تعانيها الإنسانية في عالمنا اليوم.

ونتيجة لهذا التقاطع بين العولمة وحقوق الانسان، إنقسم العالم إلى موقفين متعارضين متصارعين حتى العنف أحيانًا. وهذا ما نشهده في التظاهرات العالمية التي ترفع شعار العدائية للعولمة وللدول الكبرى وبشكل خاص للولايات المتحدة الأميركية التي تأتي على رأس النظام الكوني الجديد. من هنا فإن الدول الكبرى تسعى إلى تدعيم مواقفها وتوجّهاتها المادية بتوجّهات ثقافية روحية تعمل على تثبيت ركائز العولمة. وهذا يعني حتمية التلازم بين العولمة والثقافة على مختلف جذورها وتفرعّاتها.

 

حتمية التلازم بين العولمة والثقافة

ركزت الأبحاث والدراسات على تلازم استراتيجي بين العناصر الاقتصادية والثقافية في توجّهات السيطرة على العالم، إلى درجة " أنه لا يمكن الفصل بينهما، إن لم نقل أنهما يشكّلان وجهين لعملية واحدة. فكل واحد يقدّم تبريرًا لوجود الاخر بهدف منحه شرعية قيامه. وتمكُّن هذين العاملين من الهيمنة على العالم اليوم، ساهم في تثبيته تدخّل الإبداع التكنولوجي ووسائله الإعلامية،  فأثّرا بشكل أو بآخر في آليات العمل السياسي"(5)، لذلك تتصاعد الحوارات حول متطلّبات العلم الحديث ودوره في تكوين شخصية المتعلّم والمثقّف المتفاعلة مع واقع العصر، في ظلّ التطوّر المتسارع لإنتاج المعرفة وتوزيعها وتحويلها إلى طاقة فاعلة في ثورة العالم التكنولوجية، وفي انفتاحه وتواصله، وسهولة إنتقال الإنسان عبر الكون، بل في تحوّل إيديولوجية المعرفة من التنظير إلى التطبيق في الحاجات العملية، واعتماد النبوغ في المهارات العقلية، وإحلالها مكان المهارات البدنية التي شكّلت قاعدة النجاح في الثورة الصناعية. في هذا المجال يعلّق "ليستر تارو" أهمية كبرى على العلم في موضوع التحذير من الأخذ الكامل بالعولمة والانخراط فيها عشوائيًا فيقول: " لا بد من إيلاء البحث العلمي أهمية خاصة، وإعداد الكوادر الكفوءة والعمالة الماهرة لأن مهارات الأيدي العاملة في سبيلها إلى أن تصبح سلاح التنافس الرئيسي في القرن الحادي والعشرين" (6) فإذا كانت العولمة تهدف إلى إبقاء الأصلح في المجالات الإقتصادية على طريقة نظرية داروين في الكائنات، فإنها تسعى في مجالي العلم والثقافة إلى الغاية نفسها، إما بطريقة معتمّدة ومخطط لها في الاصل، وأما بطريقة لا شعورية خاضعة لحالة التماهي بالأقوى والأفضل التي تصيب الشعوب المتخلّفة والضعيفة والتائقة إلى إثبات وجودها في حركة الوجود الكوني، وهذا ما يحقّقه الإعلام الموجّه في معظمه، والذي يُوظّف للاختراق الثقافي، واستعمار العقول وربط المثقّفين بدائرة محدودة هي "دائرة التسيير" التي تصرف العقل عن أي شيء يقع خارجها، وتجعل منه عقلاً أداتيًا محضًا" (7)

 

دور المثقفين

وهنا لا بد من التساؤل حول دور المثقّفين. في الحقيقة أن الجميع يتطلّع إلى المستقبل الأفضل ويسعى إلى الكمال في جميع الأمور، والمثقّفون لا يبخلون بالتنظيرات المثالية القيّمة، غير أنه لا بد من الإشارة إلى أن بين التنظير والواقع فجوات كثيرة ومطبّات خطيرة، فلا يكفي أن تطرح القضايا من مثاليات بعيدة عن الواقع يعجز المثقّفون أنفسهم عن تحقيقها أو المساهمة فيها، أو يتهرّبون من تنفيذها مكتفين بطرح النظريات والتصوّرات. فالتعليم والتربية والثقافة معادلة واحدة، إذا لم تتحوّل ، في عصرنا هذا ، إلى حقائق ملموسة ويومية، عجز المجتمع عن اللحاق بالتسارع المخيف الذي تتدفّق من خلاله التكنولوجيا وحاجات السوق نحو فرض نفسها على ميادين المعرفة والعمل معًا. فكم من داعية إلى الحوار تنظيرًا هو بعيد عن الحوار عمليًا، وقد سبقه قطار الواقع بمسافات بعيدة وجعله على هامش الإنتظار يستقوي بالادعاءات والتهجّمات والاتهامات دون أن يحقّق أية إيجابية في مسيرة التطوير وفي مواجهة تحديات العولمة بالعقلانية الواعية. والاقرار بدور الثقافة في تركيز دعائم العولمة وقوة سيطرتها مسؤولية جديدة أمام المثقّف لكي يقف في المواجهة العملية التطبيقية ولا يكتفي بالخطب الرنانة المنبرية. ولعلّ الخطوة الأولى في ذلك هو الاعتراف بأن العولمة لن تقوى على خصوصيته ضمن إطار تطويري يشارك هو فيه، وليس ضمن حالة من الخوف والتردّد. فلا يكفي أن يوجه المثقّفون الاتهام للعولمة بكونها أداة للقضاء على مقوّمات تراثهم وحضارتهم، ثم يشاهدون مسيرتها في صيرورتها التاريخية الحضارية من دون أن يتحرّكوا لمواجهتها إيجابًا. عليهم أن يحدثوا إطارًا عمليًا تتوحّد فيه جهودهم لكي يواجهوا الحقيقة بعقل منفتح، يساعدهم على إحداث تغيّر جذري في بنية الفكر ويؤدّي بهم إلى نهج جديد قائم على التعاون محليًا وإقليميًا ودوليًا، لكي يحافظوا على دورهم في مسيرة العصر. هذا التعاون يتحقّق من خلال توثيق ارتباطهم بالعالم " وفقًا للمواثيق والمعاهدات والعهود والاتفاقات الدولية، وهي التي تقلّل من عنفوان الصدمات العاتية التي تهز استقرار هويات الشعوب، وتضعف من تأثير العولمة على الهوية الثقافية والحضارية. ومن خلال العمل الثقافي الدولي الذي يثري التنوّع الثقافي، ويوسّع قاعدته ليشمل العالم كله، و يمكّن الإرادة الدولية من توجيه العولمة صوب مسائل العلم والمعرفة والتكنولوجيا ليغلب الجانب العلمي والثقافي على الجانب الإقتصادي والسياسي"(8)

 

محاولة الشعوب للحفاظ على كياناتها وثقافاتها وخصوصياتها

إن المحاولات التي تسعى شعوب العالم إلى وضعها في مواجهة العولمة ترتكز على الدعوة إلى التمسّك بالثقافات الخاصة بها. ولعل أهم ما يتأصل في نفوس الشعوب وفي وجداناتهم هي عناصر حضاراتهم التي تشكّل تاريخًا متجذّرًا في النفوس وفي مظاهر الكيان الوجودي لهذه الشعوب، كالدين واللغة والمعتقدات والعادات والتقاليد. وهذه العناصر هي مكوّنات روحية أساسية في حياة الشعوب تختلف عن العلوم الدخيلة التي تحملها حضارة التكنولوجيا التي تجتاح العالم بحيث يصعب على الإنسان أن يقف في مواجهة الاغراءات الاعلامية التي تدخل قسرًا إلى منزله وإلى خصوصية حياته. إن محاولات التمسّك بالثقافات الخاصة تشكّل النقطة الأساسية في التصادم بين العولمة والشعوب.

 

الصراع بدلاً من الحوار

عند هذه الحدود من التفاعل والتجاذب بين النظام العالمي الجديد وحضارات الشعوب تبرز نقاط الخلاف وكأنها هي العنوان الرئيس الذي يواجه متطلّبات المعرفة العلمية والثقافية في المستقبل. فالدول القوية التي تمتلك قدرات هائلة مالية واقتصادية وسياسية وعسكرية، تجد نفسها في مركز السلطة الكونية التي لا تقف عند حدود كياناتها الذاتية الجغرافية والاقتصادية والسياسية والثقافية، بل تتعدّى ذلك لتفرض نفوذها وسياستها وتوجّهاتها على العالم، حتى وإن كانت تلك التوجّهات لا تتوافق مع مصير الدول الصغيرة وشعوبها، أو مع معتقداتها ومذاهبها وتقاليدها، وهي بالتالي تتحكّم بالقرار الدولي، وتكيّف مفاهيم الديموقراطية بما يتناسب مع سياسة السيطرة التي تحقّق مصالحها. ونتيجة لهذه الفوقية تشعر الشعوب المستضعفة بالغبن والظلم والعدائية، ولا تجد مجالاً للحوار. فالقوي ينظّم الحوار مراعيًا مصالحه بالدرجة الأولى، وليس بما يتوافق مع الحقيقة والقانون الطبيعي والعدالة. وهذا التعامل يؤدّي إلى تعميق الهوة بين الشعوب، ويعيد العالم إلى نظامين متصارعين غير معلنين. الأول هو سلطة الأقوياء والثاني هو القوى غير المنظورة النابعة من رفض المغلوب على أمره، التي تعمل لتدمير أولئك الأقوياء. ولعلّ الإرهاب الدولي الذي يهدّد الإستقرار العالمي هو النتيجة العملية لرفض سلطة العولمة القاهرة، بل هو مظهر لحرب كونية رابعة تأتي بعد الحرب الباردة التي سيطرت في القرن الماضي.

 

العودة إلى صراع الحضارات

إن نتائج هذه الحروب الجديدة سيكون تأثيرها سلبًا على الإنسان، ماديًا وحضاريًا، وسوف تستعمل فيها أسلحة متطوّرة ومتنوّعة مدمّرة، تعيد إلى ذاكرة التاريخ الصراعات الطويلة التي قامت قديمًا بين الحضارات وأدّت إلى الاجتياحات شرقًا وغربًا، وإلى تخريب الممالك والامبراطوريات والمعالم والمدن والشعوب. وصراع الحضارات لا يقف عند حدود التدمير المادي بل يتعدّاه إلى صراع الثقافات الذي يتمظهر بالاقتتال الديني، والتنازع بين الاثنيات والأعراق واللغات. والنظام العالمي الجديد الذي يدعو في روحية مبادئه إلى استثمار خيرات الارض وتعميم هذه الخيرات على البشرية جمعاء، هذا النظام سيصل إلى حالة من عدم الاستقرار، وسيحمل حروبًا متواصلة لا يمكن تقدير نتائجها السلبية.

 

التعليم والثقافة وجهان للحلول

إن موضوعات الصراع الكوني ترتكز مستقبلاً على نزاعات دينية وعرقية وإثنية وثقافية، ولن تشمل مواد العلم المادي. فالتكنولوجيا التي تجتاح العالم تحمل في ذاتها عنصرين متناقضين، الأوّل توحيد للشعوب من خلال المعرفة، والثاني تمزيق للثقافات من خلال تدمير ذاتيّتها. فلا خلاف جذري على العلم في المطلق لأنه نتاج العقل. ولا خلاف حول ما يقدّمه من معارف للشعوب في أية منطقة من الأرض. ومادة العلم تبقى هي نفسها، لأن الشعوب تسعى إلى تأمين حاجاتها ومستلزمات تطوّرها المادي دون النظر إلى مصادر إنتاج هذه التكنولوجيا. وهي لن تتوقّف عند حدود التخلّف وعدم السير في التطوّر العلمي. لذلك فإن القضايا الخلافية بين الشعوب تتركّز على النواحي الثقافية فحسب وهي المواد التي تقدّمها العلوم الانسانية.

وفي هذا المجال تبرز إيديولوجيا العلم في المفهوم المعاصر. فالعلم لم يعد تنظيرًا ومتعة عقلية ونفسية، ولم يعد الهدف منه تحصيل المعرفة المطلقة فحسب، بل أصبح  يتّجه نحو النفعية والإتاج والجودة بشكل أساسي، فلا جدوى من معرفة لا تعطي صاحبها تمايزًا في قدرته على العمل وتحسين أفضل الظروف المعيشية له، خصوصًا مع الإنفتاح الكوني على استقطاب الأدمغة النابغة. ومجالات العمل أصبحت سوقًا مفتوحة للمتفوّقين. أما التحصيل العلمي العادي التقليدي فنطاقه محدود، و يؤدّي في الغالب إلى البطالة.

من هنا يأتي دور الجامعات في هذه المعادلة، مكمّلا لهذه الإيديولوجيا التعليمية الجديدة. فالأدب والفن والتربية والبيئة وحقوق الإنسان والديموقراطية وسائر العلوم الإنسانية هي مسلّمات أساسية في تطبيق نظام العولمة، حتى وإن كانت هذه العولمة مصبوغة بطابع المال والاقتصاد.

     

دور التعليم والتربية

إنطلاقًا من هذا الدور الخطير للعلم والثقافة تتكاثر الأسئلة حول ماهية التعلّم وأهداف التربية، وحدود الجودة في التحصيل العلمي الجيد لكي يصبح الطالب المتخصّص  منتجًا، فلا يضيّع نفسه ويهدر وقته وطاقته خارج مجالات إختصاصه، أو يصير عالة على المجتمع الذي أسهم في تعليمه وتربيته. وفي نطاق ربط التربية والعلم بالعولمة تطرح قضايا أساسية تبدأ بمقدرة المتعلّم على قبول تحديات العولمة ومتطلّباتها. فالعالم قد تحوّل إلى سوق واحدة ليس لاستهلاك البضائع والسلع التي تنتجها الدول الصناعية، وتتحكّم بها الشركات العملاقة فحسب، بل لأن فلسفة "سوقنة" العالم، اي جعل العالم كله سوقًا واحدة،  تقضي باستقطاب الأدمغة إلى مراكز الإنتاج العالمية، بهدف الاستفادة من خصائص التفوّق التي تتميّز بها هذه  الطاقة البشرية المبدعة. من هنا يتركّز الإهتمام على سوق العمل الذي يجذب الطاقة المتعلّمة، في الدول المتطوّرة، فتخسر الدول النامية والفقيرة أبناءها المتعلّمين، وبالتالي تخسر قدرتها على المزاحمة، أو الوقوف في وجه التيار المتنامي للعولمة. فالشباب الجامعيون المهاجرون من بلدانهم يزداد عددهم سنة بعد اخرى. وفي هذا المجال تشير الاحصاءات إلى أن نسبة الجامعيين اللبنانيين الذين هاجروا في أواخر القرن الماضي وعلى مدى تسع عشرة سنة، هي 32 بالمئة من عدد المهاجرين، بينما تعادل نسبة الجامعيين المقيمين 22،4 بالمئة من عدد السكان المقيمين ( 9). يعني ان الجامعيين المهاجرين يزيد عددهم على 233000 مقابل الجامعيين المستقرين وعددهم 880000. وهذه هي صورة عن النزف الديموغرافي للأدمغة والمتعلّمين الذي يعانيه واحد من البلدان العربية حيث يشكل التعليم فيه النسبة الاعلى، اي 93،7 بالمئة.

كذلك فإن هناك توجّهًا جديدًا في مجال التعليم الجامعي للعلوم والهندسة في الغرب مبني على فلسفة جديدة نابعة من الحاجة إلى التعامل مع التكنولوجيا العالية التقنية. هذه التكنولوجيا فرضت مجموعة من المهارات الجديدة على العاملين فيها، مثل المهارات الإدارية والمالية والقانونية واللغوية والعلاقات العامة اضافة إلى المهارات المرتبطة مباشرة بمادة الاختصاص، وقد أدّت هذه التوجّهات إلى إعادة النظر في أساليب التعليم التقليدية فيما يختص بالتأهيل والمهارة، كما أضيف إليها مفهوم آخر يتعلّق بالمردود الإنتاجي أو الحصيلة النهائية للمتعلّم من المنهج التعليمي. من هنا يقترح تقرير الأونسكو أربعة مبادىء للتربية للقرن الواحد والعشرين وهي:

  • التعلّم للمعرفة.
    • التعلّم للعمل.
    • التعلّم للتعايش معًا.
    • التعلًم من أجل البحث في الذات وتقبًل القيم العالمية.

    و هكذا تتأكّد أهمية المهارات التجريبية التي تحدّد علاقة المتعلّم بالمجموعة التي يتعامل معها، بشرية كانت أم آلية تقنية مثل تبادل المعلومات والخبرات، وحلّ المشكلات الذاتية للعمل أو حل المشكلات المتعلّقة بالبيئة التي يعمل فيها، ومقدار تجاوبه مع الصدمات الحضارية التي تولّدها التحوّلات المستمرّة في البرمجة المعلوماتية وأساليب استخدامها، والخدمات التي تنتج عنها. وقد فرض هذا الواقع على الإدارات الجامعية في الدول الصناعية إعداد برامج متغيّرة باستمرار لكي تتمكّن من مسايرة التحوّلات العلمية، لذلك فإن التوجّه نحو التعاون الدولي في مجال العلوم وتبادل الخبرات يشكّل، خصوصًا في أوروبا، نهجًا جديدًا  إذ أن كثيرًا من الدروس الجامعية تتمّ " بالتعاون بين عدّة بلدان و مجموعة من الجامعات"(10)

 

أما التساؤلات التي يطرحها واقع الحال في مجال العلم والتأقلم مع توجهات العولمة فهي الآتية:

- أهمية العلم في الحياة المعاصرة.

- تأثير المسعى العلمي في دعم الانتاج.

- إسهام العلم في حل مشكلات المجتمع.

- تأثير المجتمع على تقدّم العلم.

- مستلزمات اللحاق بالثورة العلمية.

- الامكانات الابداعية القادرة على تحويل العلم من المحتوى المعرفي الصرف إلى الإنتاج الفعلي.

- إعادة صياغة للمناهج التعليمية والتربوية بهدف الاستغناء عن التلقين والحفظ واعتماد الفكر الحر المستقل والحوار البناء.

- إستخلاص العبر التي تؤمّن نتائج مفيدة من تحقيق العدالة الاجتماعية والنمو المضطرد في قطاعات الانتاج وتأكيد خصوصية المجتمع وانتمائه إلى محيطه.

- التركيز على قيمة الفرد وحريته وسعادته وتأكيد حتمية التطوّر والتغيير.

- إكتساب المهارات المناسبة للإنتاج، والقدرة على استخدام الأسلوب العلمي في حل مشكلات الحياة اليومية.

  • التوازن بين المتخرّجين من الجامعات وسوق العمل المحلية والخارجية، ويتحقّق ذلك من خلال تنويع الاختصاصات وتطويرها وجعلها تتنامى مع متطلّبات التكنولوجيا المتسارعة.
  • التركيز على أهمية التفوّق والابداع والتمايز في صفوف المتخرّجين، طالبي العمل، وذلك لخرق اسواق العمل وفرض قدراتهم ونبوغهم، ومواجهة تحديات العولمة.

 

دور الجامعات في الحوار الحضاري

من هنا يبرز دور الجامعات في بثّ روح حوارية تعاونية، تستند على توجيه علمي راق. فالجامعات التي تستقطب مجتمع الشباب الذين سيشكّلون في المستقبل النخبة المثقّفة، و القيادية، و المعرفية، و التربوية، أي النخبة المنتجة، من الطبيعي أن يكون لهم الدور الفاعل والمؤثّر في حركة الحوار العالمي، وفي تكوين حضارة جديدة، منفتحة ومتفاعلة إيجابًا مع خصوصيات الاۤخرين. ولا يكفي أن يكون الحوار عبر العلم المادي فحسب، بل إن الحوار يتطلّب برنامجًا شاملاً يؤمّن لغة جديدة للتخاطب بالوسائل شتى: عبر الاعلام أو بالاتصال المباشر. والانطلاقة الأولى لمثل هذه الحوارات تقتضي معرفة أساسية بخصوصيات الشعوب، ومعرفة بتاريخها وحضاراتها وعقائدها ومعتقداتها وعاداتها وتقاليدها وفنونها وآدابها. ولكي تتوافر المعرفة،  تبدو الحاجة الملحة إلى إنشاء مراكز للحوار الإنساني في الجامعات. على أن تتضمّن هذه المراكز مجموعة من الدراسات والمقرّرات الأكاديمية الخاصة بالحوار الإنساني، كما تكون هذه المقرّرات التعليمية مادة إلزامية في جميع الإختصاصات التي تقدّمها الجامعات. وتلحق بهذه المراكز مكتبات ووثائق تاريخية وجغرافية وبيئية وفنية وأدبية واجتماعية شاملة، تسهم في المعرفة والانفتاح على الاخرين.

 والتعرف بهذه الجوانب من حياة الشعوب يزيل الحواجز النفسية التي يقيمها الجهل بين البشر وتثبّتها السياسات والمصالح الاقتصادية، والنزعات الاستبدادية. فالشعوب عندما تتقابل وجهًا لوجه وتتحاور، تكتشف النواحي الانسانية الكامنة في أعماقها، وتتمكّن من الخطاب الحواري، وتغلّبه على الخطاب التصادمي أو الصراعي.

إن إنشاء مراكز للحوار الحضاري الكوني هو مهمة أساسية في الجامعات، تعيد إلى العلوم الانسانية مكانتها وسط ضغوط العلوم المادية، والتأثير الذي تتركه التكنولوجيات على العقول والنفوس. ومثل هذه المراكز تثبت أن العلم في المواد الانسانية لن يكون مجرّدًا عن أهداف خدماتية رديفة للمواد العلمية التي يتطلّبها العصر المادي. فحقوق الإنسان والبيئة والديموقراطية والفنون والثقافة أصبحت اليوم عناصر أساسية في مفاهيم التنمية المستدامة التي ترعاها الأمم المتحدة، من أجل تحقيق إنماء متوازن في العالم، خصوصًا وأن الهوة تزداد اتساعًا بين العالمين الغني والفقير. وقد أثبتت الوقائع مدى الضرر الكبير الذي يحدثه التخلّف في المجتمعات الفقيرة والمجتمعات الاستبدادية التي لا تراعي شرعة حقوق الإنسان ولا تطبّق العدالة الاجتماعية، ولا تحقّق لشعوبها المساواة والفرص المتعادلة للعيش الكريم، و تحصيل العلم والثقافة.

 

كيفية التعاون بين الجامعات

إن التعاون بين الجامعات أصبح اليوم ضرورة ملحّة على جميع المستويات الإدارية والأكاديمية والانسانية والحضارية. فتبادل الخبرات يؤدّي إلى عملية تطوير مشتركة تسهم فيها العقول المفكّرة والمنتجة من عدة مجتمعات بشرية. والرؤية الكونية الجديدة تقضي حكمًا بهذه النزعة التعاونية. غير أن هذا التبادل وإن تحقّق بشكل طبيعي، تطويري، في مجالات العلوم المادية فإنه يبقى ناقصًا إذا لم ترافقه حركة تبادل على المستويات الانسانية النخبوية ثقافيًا.

 وهذا التعاون لم يعد مشكلة صعبة في زمن التواصل الكوني السريع الذي يتعمّم على العالم ، عبر شبكات الاتصال الإلكترونية التي تغطي أرجاء الكون. فيكفي أن تبادر الجامعات وكليّاتها إلى تطوير ذاتي في أول الأمر، بتجهيز أقسامها وفروعها ومكتباتها ومختبراتها، وبتحديث برامجها. ثم بربط مراكز المعرفة فيها بمراكز المعرفة في الجامعات الأخرى حتى تكون قد هيّأت المناخات المناسبة لإنشاء مراكز للحوار العالمي، وبدأت بالخطوات الأولى الأساسية لهذا الحوار.

أما الخطوات العملية التي تلي التطوير الذاتي داخل الجامعات، فتقضي بنقل الحوار إلى خارج نطاق كل جامعة. فالشباب المتعلّم والمثقّف هو المؤهّل طاقةً، واستعدادًا فكريًا ونفسيًا وجسديًا وعمليًا، لتشكيل كتلة بشرية فاعلة تسعى لإيجاد إيديولوجية كونية جديدة تهدف إلى تحقيق روحية التفاهم والتعاون بدلاً من روحية الصراع والاقتتال. غير أن هذه الطاقة تبقى بحاجة إلى التوجيه والقيادة والارشاد لكي تسلك في السبل القويمة المؤدّية إلى الغاية المنشودة.

أما عملية الإتصال عبر المراكز المعرفية التي نشأت في الجامعات فإنها تستكمل بخطط عملية أخرى، تتحقق بلقاءات مباشرة بين مجموعات طلابية مختلفة الأجناس والثقافات، في إطار برنامج شمولي تعدّه هيئات خاصة في الجامعات المتعاونة، و يقضي هذا البرنامج بتبادل الخبرات و الزيارات السنوية واللقاءات الدورية المخصّصة للحوار الحضاري الإنساني.

إن العمل الجامعي التربوي على هذه المستويات الحضارية يحتاج إلى قناعة تامة بالقيمة الأساسية للإنسان روحيًا وفكريًا، كما يحتاج إلى النضال والتضحيات والمثابرة، ولكن النتائج الايجابية المتوقّع تحصيلها من حوار الحضارات تستحقّ الجهد الكبير، خصوصًا من قبل المفكّرين والنخبة الذين يعانون مشكلات الكون في ضمائرهم ووجداناتهم وأمانيهم أكثر مما تعانيها الفئات البشرية الأخرى.

 

العرب بين العولمة وحقوق الانسان

في طرح موضوع الواقع العربي لا بد لنا من العودة إلى العولمة وحقوق الإنسان وانعكاسات هذه الإيديولوجيات الحضارية على مجتمعاتنا. ان العالم العربي يشكّل حقلاً إستقطابيًا خطيرًا لتحقيق العولمة في ظل تطبيقات ناقصة وغير ناضجة لحقوق الانسان. فهذا العالم غني بالثروات الطبيعية التي تحاول العولمة استثمارها بأي ثمن: السلم أو الحرب، التحالفات والمعاهدات، الترهيب العسكري والتخويف وما ينتج عنهما من أساليب الحماية المصطنعة.

فعلى مستوى حقوق الانسان، شكّلت الجامعة العربية منذ تأسيسها روحية قومية دولية تنزع إلى الفكر الشمولي، فميثاقها يقول بصراحة: إنها منظّمة تجمع بين "دول أعضاء" وليست على مستوى الشعوب فحسب. غير أن هذا الميثاق لم يشر إلى حقوق الإنسان كما هو في المفهوم الدولي. ولعل ذلك عائد إلى خصوصيات مرتبطة بالثقافة العربية الإسلامية وبالواقع العربي في ظل الاستعمار آنذاك. غير أن التطوّر الذي تحقّق في النصف الثاني من القرن الماضي قد دفع بالجامعة العربية إلى إنشاء "لجنة إقليمية عربية  دائمة لحقوق الإنسان في نطاق جامعة الدول العربية" وذلك بتاريخ 3 أيلول\سيبتمبر 1968 تحمل القرار رقم 2443 . وقد دعت الأمانة العامة للجامعة إلى عقد مؤتمر عربي إقليمي لحقوق الإنسان في بيروت بتاريخ 2/10 كانون الأول\أكتوبر ،1968 صدر عنه بيان يؤكّد دعم العمل العربي المشترك في مجال حقوق الانسان. وفي منتصف الثمانينات، توسّع نطاق العمل العربي في هذا المجال أمام تنامي حركات إنسانية داخلية ومؤثّرات خارجية. وفي العام 1994، أقرّ مجلس الجامعة العربية مشروع الميثاق العربي لحقوق الإنسان ( القرار رقم 5473 ). واللافت في هذا الإقرار ما يلي: " تأكيد حق الشعوب جميعًا في تقرير مصيرها وفي السيطرة على ثرواتها ومواردها الطبيعية، وإن العنصرية والصهيونية وكذلك الاحتلال والسيطرة الأجنبية تمثّل تحديًا صارخًا للكرامة الإنسانية وعائقًا يحول دون التمتّع بالحقوق والحريات الاساسية الفردية والجماعية".

إن الإشارة الصريحة إلى حق الشعوب في السيطرة على ثرواتها ومواردها الطبيعية تخفي في طياتها خيوطًا تربطها بمفهوم العولمة الأساسي، وهو الباب الاقتصادي، وتوزيع الثروات على العالم خصوصًا وأن تاريخ صدورها قد سبقته الطروحات الجديدة للنظام العالمي الحديث المبني على مفاهيم العولمة. أما فيما يختص بالممارسة الديموقراطية فالحديث يطول هنا، ذلك لأن التطبيق غالبًا ما يظهر هشاشة التشريعات عندما يتحوّل الأمر إلى التنفيذ، ليس في البلاد العربية فحسب، بل لدى جميع الدول، حتى تلك التي تعتبر نفسها راعية للديموقراطية ورائدة في تطبيقها.

    وانطلاقًا من مفاهيم حقوق الإنسان والمحاولات التي تقوم بها البلاد العربية في المجالات التعليمية والابداعية والثقافية تظهر أمامنا وقائع غير مشجّعة تحتاج إلى جهود كبيرة لإحداث التغيير الحضاري المناسب. فإذا كانت المجتمعات المتطوّرة علميًا وتكنولوجيًا، وهي تنتج التكنولوجيا ونظم التعليم المرتبطة بها تعاني صعوبات كثيرة فكيف  إذًا بالواقع في الدول المتخلّفة، ومنها الدول العربية؟

إن ما أصاب العالم العربي بعد العولمة هو جزء مما أصاب العالم الثالث من قلق وخوف وسيطرة أحادية للقوة الاميركية وللشركات العملاقة المستثمرة. حتى ان بعض الباحثين إعتبر أن "حرب الخليج كانت شبه حرب عالمية واجه فيها الشمال الذي تقوده الولايات المتحدة بعد أن حوّلت أوروبا واليابان إلى تابعين لها، فيما تفعله بالجنوب، وجرت فوق ميدان  اقليمي، وفوق هذا الميدان قادتا الولايات المتحدة الاميركية وإسرائيل حربًا من أجل النفط وعلى حساب العالم الثالث وعلى رأسه البلدان العربية والاتحاد السوفياتي السابق وأوروبا واليابان" (11)

ومن الطبيعي أن يكون العالم العربي في وسط هذا الخضم القلق الذي تعانيه معظم شعوب الأرض، لذلك علينا أن نسرّع تحرّكنا الواعي والعقلاني، وأن نجعل محطة إنطلاقتنا الأولى المقولة التالية:  " العلم للجميع " وأن نبدأ بها من القاعدة، أي من البنى التحتية لتهيئة الإنسان المتعلّم، لكي نتمكّن بعد ذلك من تخطي الازمات التي يتحدّث عنها أولئك الذين ساروا نحو في العلم والتربية والتنمية والإبداع.

لا بد لورشة العمل عندنا من أن تبدأ بتحقيق هدف اساسي أولي هو المحو التام للأمية في البلاد العربية. ذلك أن الواقع يؤكّد وجود مستويات متدنّية في التعليم لدى بعض الدول العربية، ويظهر مدى التفاوت بين معدلات الامية، فبينما ترتفع نسبة المتعلمين في لبنان إلى %93،7 العام 2000 ويتوقّع ارتفاعها إلى 95،8% العام 2010 وتحتفظ الاردن وسوريا والسعودية والكويت والإمارات وقطر وليبيا بمعدلات تفوق 80 %، نجد أن هذه المعدلات تتراجع لتبلغ أدنى مستواها في موريتانيا والمغرب والسودان: حوإلى 40 إلى 50 %. وتكون الحصيلة النهائية لنسبة الامية العامة في البلاد العربية 37،8 %(12) . أما تقرير الأونيسكو الصادر في 17/1/2005 فإنه يفيد بما يلي:يبلغ عدد الأميين في الدول العربية 70 مليونًا أي بنسبة وسطية 35،6%)   هذه المؤشّرات ما زالت تراعي المنحى التقليدي في فهم الأمية، غير أن الإيديولوجية الجديدة للأمية قد تغيّرت مؤشّراتها تحت تأثير التطوّر التكنولوجي ونسبة استعمال الوسائل الحديثة في ميادين العلم والمعرفة والثقافة، ودخول الكومبيوتر والانترنت عنصرًا جديدًا في التعلّم، وهذا يقتضي بروز مهارات جديدة تتعلّق بهذا النوع من التعلّم، مما يجعل معدّلات الأمية ترتفع بنسب أكثر ما هي عليه في المقاييس التقليدية. والواقع الحالي في مجال استعمال الانترنت في البلاد العربية ما زال في حالة من الضعف العام. أظهرت دراسة أعدّت نهاية العام 2003 من قبل مؤسّسة "آي. دي. سي".  محدودية التعامل في هذا الحقل المعرفي في البلاد العربية. لقد بلغ المعدل العام للبلاد العربية من حيث استعمال شعوبها للانترنت 3%. مقابل المعدّل العام في العالم وهو 10% . وتأتي دولة الإمارات في المرتبة الأولى 11% ثم تليها الكويت 10% والبحرين 9%  ثم لبنان 5% وقطر والسعودية 4%  وعُمان 3% ثم تونس وسوريا والمغرب والاردن ومصر 1% وتنعدم خدمات الانترنت في الدول الباقية. (13)

 من جهة ثانية يظهر التفاوت الملحوظ بالنسبة إلى النمو في حقول العلم والبحث والتطوير بين الدول الصناعية والدول العربية إذ "نجد الدول الصناعية تخصّص ما بين 2و3 % من ناتجها الوطني لتطوير التنمية، بينما نلحظ أن الدول العربية تخصّص 0،2% من إجمالي ناتجها للغاية نفسها(14). هذه الإحصاءات المقلقة تردفها تحديات كبيرة سياسية وعسكرية وعلمية قريبة من حدود البلاد العربية وأعني بها إسرائيل ذلك أن " النشر العلمي للباحثين والمطوّرين من العلماء الاسرائليين حقّق ما نسبته 1% من مجمل البحوث المنشورة في العالم حيث بلغ عشرة آلاف ومائتين وستة أبحاث العام 1995 في حين بلغ إجمالي المنشور لكل العلماء العرب في العام نفسه ستة آلاف وستماية وخمسة وعشرين بحثًا، وبذلك فإن، إسرائيل تشغل المكانة الأولى لعدد العلماء الذين ينشرون أبحاثًا" (15)

إضافة إلى ما تقدّم، فإن واقع المدارس وأساليب التعليم التقليدية لا تشجّع كثيرًا حتى الاۤن، فهي لا تراعي حاجات التطوّر والإبداع. وفي هذا المجال قول للدكتور علي فخرو وزير التربية والتعليم في دولة البحرين: " ما تواجه مرحلة التعليم الاساسي هي كيفية ومستوى التعليم، ذلك ان التعليم التلقيني المعتمد على الحفظ والذاكرة هو السائد في كل أنظمتنا التعليمية، وهذا النوع يخاف التغيير ويقوم على خطة محددة وأهداف معروفة. إنه يربي  إنسانًا غير قادر على الاستقلالية (16)

 

محاولات التطوير

لا بدّ هنا من الإشارة إلى أن بعض الدول العربية قد بدأ حركة تطويرية في مناهجه، في مراحل التعليم الأساسية، غير ان نتائج هذه الحركة تبقى، حتى الاۤن، محدودة، وتحتاج إلى تسريع عملي مدروس ومتابعة فعّالة، لكي تصبح  شمولية وديناميكية، قادرة على اللحاق بحاجات الإنسان المعاصر المضغوط بمتطلّبات العولمة.

إن هذا الواقع الذي تعيشه الدول العربية لا يشكّل مؤشرًا إيجابيًا قادرًا على مواجهة تحديات العولمة. ليس لأن العولمة شر يجتاح العالم من دون رحمة تجاه الشعوب المستضعفة، بل لأن العولمة نظام الأقوياء، وعلى من يقف في وجه الاقوياء أو في صفوفهم أن يثبت قوته، مهما كانت تلك القوة. ومن الطبيعي أن تكون القوة البشرية القائمة على العلم والإبداع هي الأفضل والأنجع لأن بيدها تتحرّك القوى الاخرى: السياسية والعسكرية والمالية والاقتصادية والثقافية. والعرب يملكون الكثير من عناصر هذه القوى، وما عليهم إلا أن يهتموا بالإنسان الذي يحرّكها بدينامكية عاقلة. من هنا يأتي دور العلم والتربية في صناعة الإنسان العربي وفي جعله داخل ظروف متقدّمة على النجاح التقليدي، ظروف اكثر ملاءمة لجعل التفوّق قاعدة العمل المستقبلي. إن محاولات التغيير جدية عند كثير من العرب، على الاقل لدى المفكّرين والمثقّفين الذين تظهر أعمالهم في مجالات الأبحاث والمؤتمرات والجامعات الرائدة، وفي كليات التربية. وهذه المحاولات تشير إلى أن هؤلاء المفكّرين يحاولون التصدّي للمشكلة ومواجهتها، ولا يكتفون بالشكوى، وتوجيه الاتهامات، واصطناع المواقف السلبية هروبًا من الخلق والإبداع. كما تؤدّي، إلى إجراء تحوّلات جذرية في المناهج التعليمية والتربوية و في إحداث مناخ فكري جديد قادر على الثبات في وجه متطلّبات العولمة. غير أن التقصير يبقى في عملية نقل هذه المحاولات وتعميمها على مستويات التعليم الأخرى، وفي شموليتها و الاستفادة منها جماهيريًا. من هنا، لا بد من طرح برنامج عمل تطبيقي شامل يستفيد منه الجميع.

 

تصوّرات للتطوير

 هذا البرنامج يفترض الأمور الآتية:

  • إيجاد هيئة عربية عليا منبثقة عن وزراء التعليم والثقافة العرب، تضمّ مفكّرين وباحثين تربويين قادرين على التحرّك المستمر بين حركة التسارع المعرفي العالمية من جهة وحركة التعليم في البلاد العربية. وأن تكون هذه الهيئة مرجعية ثقافية وعلمية وتربوية لكل نشاط من هذا النوع. وأن تنبثق عنها هيئات وطنية تقوم بتنفيذ برامجها المتنوّعة، من مسح واحصاءات ودراسات وبرامج تنفيذية وآراء وأفكار. و هذه الهيئة لا تتكوّن إلا إذا توافر لها القرار السياسي العربي الذي يعمل لحماية الأدمغة العربية وتوطين المبدعين في بلادهم. وهذا التوطين هو من أهم العوامل التي تقف في وجه التحدي المستمر الناتج عن التنامي المتسارع للتكنولوجيا التي تشكّل عصب الاندفاع الذي تسير فيه العولمة نحو الهيمنة على العالم.
  • الخروج من دائرة التقليد واعتماد الديناميكية في تغيير برامج التعليم خصوصًا في مجالات التكنولوجيا المعلوماتية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن مقاييس الأمية آخذة بالتبدّل بعدما دخلت المعلوماتية جزءًا أساسيًا في التعليم الابتدائي الأول في الدول المتقدمة، فالمهارات التي يكتسبها الطفل أصبحت أكثر تعقيدا ما تؤمن له الآفاق الجديدة للتعامل مع تكنولوجيات العصر بشكل أفضل. لذلك من الضروري أن تبذل الجهود المكثّفة في مراحل التعليم الابتدائية لتغيير الأنماط التعليمية التقليدية حتى يتأهّل المتعلّم لقبول المعارف الجديدة والمهارات المكتسبة معها.
  • الاستفادة من خبرات الجميع بواسطة التعاون الدائم بين الجامعات العربية، وتبادل المعلومات، على أن تكون الندوات العلمية فاعلة، وتخرج من نطاق الخطب المنبرية والاتهامات العشوائية. وهذا يؤمّن للجماعة المتعلّمة آفاقًا أوسع ما تؤمّنه البرامج التقليدية، وانفتاحًا على اختصاصات مرنة وشاملة ومتكاملة وهي صفة التمايز والتنوّع والتفوّق.
  • انشاء مركز عربي للأبحاث التطبيقية والتجريبية، يساهم من خلاله الطلاب العرب والأساتذة، في أي قطر عربي كانوا ، في تطوير المعرفة وتنمية المجتمع وتوسيع أفق التعاون العلمي.
  • إنشاء بنك للأدمغة العربية يستقطب المبدعين والمتفوّقين من الشباب العرب وينمّي التوجّه الابداعي لديهم، كما يساعدهم على توظيف إبداعاتهم في حقول الإنتاج العربي بدلاً من هجرتهم إلى العالم الغربي.
  • أن تتبنى كل جامعة من الجامعات العربية عالمًا واحدًا على الأقل، أو مبدعًا، وتموّل إختراعاته واكتشافاته، وتسجّلها في البلد العربي الذي يحضنه، لكي يتأمّن للعرب مجموعة من العلماء يعملون في بلدانهم بدلاً من هجرتهم إلى البلدان الغنية التي تستغل طاقاتهم لمصالحها وإنتاجها.
  • زيادة رأسمال المؤسّسات التي تشجّع الإختراعات العلمية والاكتشافات، لرفع مستوى النمو الإبداعي. فلا يكفي أن يمتلك العالم العربي قوّة مالية تؤمّن مجتمع الإستهلاك ولا تؤمّن مجتمع الإنتاج. فالعقل المتفوّق يحتاج إلى مجالات الإبداع لكي يبرز طاقاته.
  • تحديد علمي لمفهوم الجودة في مجالات التعليم والتربية تمهيدًا لتوحيد التصوّرات من خلال مؤشّرات معاصرة، تكشف النبوغ العربي وتبرزه للإستفادة منه في جميع الميادين العلمية و الثقافية. وتحديد مفاهيم الجودة ينطلق من عملية مسح شاملة لسوق العمل المتنامية، وربط النتائج بالحاجات التي يجب أن توفّرها أساليب التعليم والتربية الحديثة. كذلك ربط التعليم بالعمل، أي بتكثيف التدريب للطلاب الجامعيين المقبلين على الإنتاج حتى لا يجدون أنفسهم خارج إطار متطلّبات الواقع العملي. وهذا هو أحد الاۤفاق الجديدة لمواجهة تحديات التنازع على الفوز والنجاح في عالم العولمة.
  • تمسك بالخصوصية الثقافية التي تدعم بقوّة روحية الانتماء إلى المجتمع والوطن والأرض والتراث، وعدم اعتبار هذه الخصوصية صورة عن التخلّف، بل هي أصالة قد تتطوّر بالإستفادة من الاۤخرين وليس بالتعنّت والتزمّت. فالانفتاح الفكري الحر هو العامل الأساسي في تحرير الذات العربية وفي انطلاقها الكوني.

أخلص إلى الملاحظة بأن ورشة العمل التربوي القائمة على مستويات التعليم المتنوّعة في البلاد العربية عامةً تبشّر بظهور رؤية مستقبلية إيجابية تؤدّي إلى بلورة مفاهيم تربوية جديدة  قادرة على الوقوف في وجه تحديات العولمة، غير أن الخوف يبقى من تباطؤ هذه الحركة أمام تناحر السياسات وتصارعها، وتضييقها على النشاط الفكري والإبداعي، واستغلال المتضرّرين من نهضة العرب نقاط الضعف الكثيرة في الجسم العربي، ما يجعلنا نلهث متعبين ونحن نلتحق بالحركة المتسارعة التي تنتجها يوميًا و باستمرار ثورة التكنولوجيا المتحكّمة بالعالم.

 

المراجع:

1- باسكال يونس ،– مواجهات سياتل تعيد فتح ملف العولمة – نهار الشباب – بيروت – 14/12/ 1999 ص: 32

2-  جاكي دوفيشيان – العولمة قدر لا بد منه – ملف العولمة – المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق – بيروت  العدد تشرين الثاني 1997 ص: 27 .

  1. ملف العولمة – اشكالية الواقع واسئلة المستثبل – العدد 11 – المرجع السابق
  2.  جريدة النهار 19 حزيران 2002

5- سويم العز – العولمة والتبعية والسيادة ودور الثقافة في اعادة الاستعمار – ملف العولمة – المرجع السابق ص: 48

6- حميدي العبدالله – العولمة بين حاجات التطور وفرص التكافؤ بين الدول – ملف العولمة – المرجع السابق

7- محمد عابد الجابري   العولمة خيار ام رفض  ملف العولمة – المرجع السابق

8-د. عبد العزيز التويجري – الهوية والعولمة من منظور حق التنوع الثقافي – ملف العولمة  المرجع السابق ص: 132

9-  جريدة -السفير بيروت أذار 2000

10- د. نجاح كاظم – توجه جديد في التعليم – مجلة الرأي  11/8/2003 العدد 9022

11- جريد ة النهار 19 حزيران 2002

  1. نشرة الاونيسكو عبر الانترنيت عام  2003
  2. جريدة صدى البلد – الاحد 4/1/2004 بيروت ص: 12
  3. نواف سلام – المرجع السابق

15- د. سليمان ابراهيم العسكري – مجلة العربي – العدد 539 اكتوبر 2003 ص: 12

16- أنيسة احمد فخرو – الثقافة والتعليم ، التفوق وابداع، توزيع كنوز المعرفة – الطبعة الاولى 1997 – البحرين ص 31.

Globalization, Human Rights and the Directives of Education and Teaching

Many approaches attempted to explain and define the notion of globalization, a new notion in the course of the Human intellectual and civilization progress that gave birth to a considerable material for intellectual and theoretical debates and for field statistics studies. The new communication technologies that characterize our era widened the world horizons for this intellectual energy. 

The positive intersection between globalization and Human Rights generated a multiplicity of ideas that needs to be carefully examined far from the new impacts of globalization on the human reality.

The author of the research believes it is important to synchronize the notions of globalization and culture and to establish a harmonized strategy with respect to the directives of controlling the world, and the role of intellectual people to look for a better future and seek perfection in everything.

The author lays emphasis on the role of education and teaching and on the responsibility of universities in cultural dialogue, and the cooperation means among academic institutions.

The reseracher mentions the situation of the Arab World and the impact of the new ideologies of civilization over our societies; he also evokes the shy attempts in certain Arab countries to reform their methods. 

La Mondialisation, les Droits de l’Homme et les Directives de l’Education et de l’Enseignement

De multiples explications et définitions ont abordées le concept de la mondialisation qui, de par sa nouveauté dans le cours du progrès intellectuel des civilisations humaines, a produit une considérable matière qui a alimenté les débats intellectuels et théoriques ainsi que les études statistiques de terrain. Les nouvelles technologies de communication, propres à notre ère, ont fort probablement ouvert les horizons mondiales à cette ardeur intellectuelle.

Le croisement positif de la mondialisation et des Droits de l’Homme a donné lieu à une série d’idées qui nécessite d’être judicieusement étudiée loin de ce qui a marqué la réalité humaine à la suite de la diffusion de la mondialisation. 

L’auteur souligne qu’il est important d’harmoniser les notions de mondialisation et de culture, et d’établir une stratégie harmonieuse concernant les directives de contrôle du monde ainsi que le rôle des intellectuels afin d’assurer un meilleur avenir et de rechercher la prefection sur tous les plans.

L’auteur insiste également sur le rôle de l’éducation et de l’enseignement ainsi que celui des universités dans le dialogue culturel et les moyens de coopération entre les institutions académiques.

Le chercheur aborde finalement la situation réelle du monde arabe et l’impact des idéologies civilisatrices sur nos sociétés, ainsi que les tentatives de certains pays arabes de réformer leurs méthodes, tentatives limitées jusqu’à présent.