كبارنا

تراب وسنابل ومنجل قد يضيع
إعداد: إميل يوسف عواد

يوزع أيامه بين بيروت وبحرصاف إلا أن هذه الأخيرة، إضافة الى أنها مسقط الرأس وملعب الطفولة ومنشأ الخيال، هي موضع أي كتاب ضائع أو ورقة منثورة أو قلم شارد أو حلم هارب. فأنت لا تسأله عن شيء في بيروت إلا ويقول لك: قد يكون في بحرصاف، ولا تدعوه أو يدعوك الى موعد إلا ويحدده في بحرصاف، ولا تذكّره بفكرة إلا ويؤكد لك أنه أطلقها في بحرصاف... كيف لا وهناك بيته وكتابه وقلمه، وهناك حجارته الموزعة في الحديقة والتي اختارها من الطبيعة اللبنانية في كل مكان؟ كيف لا وهناك موقع أخيه توفيق يوسف عواد، أحد أركان القصة اللبنانية وصاحب كتاب "الرغيف" الذي اختصر في الكثير من البراعة والإتقان ودقة الشعور الوطني والإنساني معاناة أبناء بلده لبنان من جراء ويلات الحرب العالمية الأولى وظلم المحتل التركي؟ ولقد استمر توفيق مقاوماً للانتداب الفرنسي اللاحق، وشاركه إميل رغم الافتتان الكبير من جانب الأخوين بالأدب الفرنسي، إضافة الى الآداب الأوروبية على اختلافها، ورغم علاقتهما الثقافية الوطيدة بالكثير من المستشرقين الأوروبيين. ويذكر إمـيل أنـه في بدايـة الأربعينيات تمـكن من الانتـساب الى الأمن الـعام (الفرنسي)

موظفاً ناشئاً، وقد كلّف مع مجموعة من زملائه بمراقبة بعض رجال الاستقلال في أحد مقاهي محلة سان جورج في بيـروت (وكان بينهم مجيد أرسلان، عادل عسيران، وسليم تقلا...)

 

وكانت المهمة تقضي بأن يمارس إميل وزملاؤه وظيفة نوادل في ذلك المقهى للتمكن من مراقبة الأحاديث التي تتم بين الرجال المذكورين ولمعرفة كيفية تحضيرهم للمظاهرات التي ستتم من أجل المطالبة بالاستقلال عن الإنتداب الفرنسي. نفذت المجموعة مهمتها، ونظم رئيسها تقريراً بالموضوع وطلب الى عناصره التوقيع، لكن إميل رفض ذلك. وكان أن تم استدعاؤه لمقابلة رئيس دائرة الأمن العام الفرنسي بارونيزي. سأله هذا الأخير عن السبب في عدم التوقيع، فقال: يا حضرة الرئيس إن أخي توفيق (كان آنذاك سكرتير تحرير جريدة النهار) يكتب ضد الإنتداب ليل نهار ويدعو الى التظاهر ضده، فكيف أعمل أنا بعكس رأيه؟ هنأه المسؤول الفرنسي وأشاد بحبه لأخيه وإخلاصه لبلاده، لكنه كان مضطراً لطرده من الوظيفة. قبل أن يتأثر كبيرنا بأدب أخيه الذي سبقه في الولادة وكتابة القصة والشهرة، تأثر بوالده الذي لم يكن كاتباً محترفاً إنما راوياً بارعاً للأخبار والقصص، بعكس والدته التي كانت تنصرف لأعمال البيت في كل حين. وأخوه توفيق لم يشجعه في البداية على الكتابة، لا بل نثر في الهواء أوراق القصة الأولى التي عرضها عليه، وقد اعترف بذلك هو نفسه حين قدّم لأحد كتبه لاحقاً (مقدمة مجموعة القصص "صديقة الأحراج" 1945 )

 

. يحرص إميل يوسف عواد في قصصه على الإلتصاق بالريف والأرض والعادات الشعبية، ويبدي الأسف والحنين والألم من هجـرة أبناء القرى الى المدن (مجموعة "تراب ضيعتي") وعلى التذكير بحياة الأجداد وحكايـاتهم، كما أنه ميّال الى الأشخاص والحالات والوقـائع التي لا يهـتم بها الآخـرون، فلكم حمل مصباحه وحـاول إبـعاد الظـلام عنها. توالت مجموعاته القصصية على الشكل التالي:

-­ صديقة الأحراج 1946.

- رجل سياسة 1952.

- ­الوردة الحمراء 1963.

- سنابل القمح 1966.

-­ بساط الرمل 1981.

-­ المنجل الطائر 1986.

-­ في أعالي الجبل 1986.

-­ تراب ضيعتي 1989.

تُرجم بعضها الى اللغات الفرنسية والإيطالية والألمانية والإسبانية، وبداية الترجمات حصلت مع المستشرق الفرنسي  Michel Barbot الذي كان  ينشرها في جريدة  Alger Républicain في الجزائر،  وجريدة L’Orient في باريس وقد قال عنه: Barbot

إن إميل يوسف عواد راو يعبر عن أفكـاره بسهولة شأنه في ذلك شأن الكاتبة السورية كوليت خوري، والكاتبة الفلسطينية سميرة عزّام، لديه رصانة واضحة في طرح المشكلات والمعالجات يستمتع القارئ بقراءتها وإعادة قراءتهـا، وهو يسـلّط نور أدبه على الوجـه المتمـيز للبـنان الأزلي. لكـن ذكريات كبيـرنا لا تحمل إليه الفـرح دائماً، كما أن شجـرات حديقته لا تظـلل ابتسامته ما فيـه الكفاية رغـم عنايته الدائـمة بهـا، ومع ذلك فإنه يرحّب بك ويهتم بقدومك، ويطمئنك الى أن قيـمة الكتاب باقيـة ما بقيـت ذاكـرة وما بـقي قلم وورقـة بيـضاء.

 

موت قلم

 البارحة زفر قلمي آخر زفرة ومات. مات وهو في عمر الزهور. ولم يتصل نبأ موته بأحد سواي. بالرغم من أن حياته ­ على قصرها ­ كانت على ما أعتقد موضع اهتمام الكثيرين من الذين عرفوه وعرفوني. ولم يفاجئني موته. لأنني يوم وجدته لأول مرة بين أناملي أدركت أن عمره لن يطول. فقد وجدته طري المعدن، مرهف الإحساس، رقيق الشعور، إنسانياً لأقصى درجات الإنسانية. فشملته بعطفي وحبي وأعطيته مركزاً جانب قلبي. ليس هو من الأقلام المذهّبة الغالية النادرة. بل هو قلم عاديّ تملك مثله عامة الشعب. لكنه كان عندي أثمن ما أملك. لم أنزعه من جانب قلبي مرة واحدة، من يوم جئت به ليوم البارحة. وكنت لا أظهره أمام الناس إلا عند الضرورة وبكثير من الحرص والاهتمام، وعندما يطلبه أحد مني أجيب بالرفض متذرّعاً بألف سبب!

 ما رحمني ولا رحم نفسه من يوم جئت به الى يوم موته. يسهر الليالي من غياب الشمس لطلوع الشمس دون أن يترك لي مجالاً لأبل حلقي بنقطة ماء أو أسد جوعي بقطعة خبز. يقعدني على كرسي ساعات وأنا محني الظهر فوق طاولة، تجمعت فوقها الأوراق وازدحمت عليها الكتب. يوم انكسرت ريشته بعد أن براها الجهد المتواصل لم تطاوعني يدي على إبدالها، فربطتها بخيط وتابعت الكتابة. فزادت رقة وإحساساً. وأصبح قلمي كالجندي الذي يجرح في المعركة ويظل يناضل كأنه لم يحدث له شيء، وبحماس أقوى وإيمان بالفوز أرسخ. لكن عمره قد انتهى. فما أطلّ يوم أمس حتى وجدته ميتاً. فوضعته على مكتبي ورحت أستعرض حياته. ثم غلّفته بالورق وصعدت به الى قريتي في الجبل. وفي كرمنا، وفي صخرة منبسطة حفرت بيدي حفرة صغيرة ودفنت قلمي فيها بعد أن كفّنته بالتراب. ولقد رثيته بما يلي: يا رفيقي الحبيب! لقد متّ قبلي. فوجدت من يعتني بك وبقبرك. ووجدت من يرثيك ويبكيك. فويلي يوم أموت أنا ولا أجد من يعتني بي وبقبري. وليس من أحد يرثيني ويبكيني. كنت أودّ أن استبقيك معي. لكنك عجّلت وافترقت عني. وما عرفت أنك صرت مني الجزء المتمم لوجودي بين البشر. أنت مطمئن الى أنني سأختار غداً غيرك من الأقلام. ترى هل يطمئن قلبي الى سواك ويثق عقلي بغيرك؟ ترى ما الذي سيحمله لي الخلف؟ هل يثابر معي على الجهاد والأناة والصبر؟ هل يقضي معي الأوقات الطوال في التفكير والكتابة؟ هل بإمكانه تلقّي العنت والإرهاق بسخرية والمضي في تحقيق أماني في عناد المستميت؟ هل يعمل للخير والحق والمحبة دون أي مقابل غير الشعور بالسعادة في رؤية البشر بسلام؟ هل يبقى حراً طليقاً لا يتقيّد برأي يفرض عليه فرضاً ولا يعتنق مبدأ يفرض عليه مقابل مال أو نفوذ؟ هل يؤمن بوطني لبنان؟ هل يريد له الاستقلال الدائم عن الشرق والغرب؟ هل يصوّر الحقيقة فيما سيخطه؟ هل يؤمن بأن الكتابة ­ وأدب القصة بصورة خاصة ­ ليست لقتل الوقت فقط بل هي وسيلة نبيلة لعرض مشاكل الناس ومحاولة شريفة لحل هذه المشاكل؟ هل يكون مثلك يا رفيقي الراحل الحبيب؟ أريده مثلك وأن يعيش معي وفي قلبه المحبة وفي عقله التفكير وفي كتاباته الحكمة والحق. لقد متّ قبلي يا رفيقي الحبيب فوجدت من يعتني بك وبقبرك. ووجدت من يرثيك ويبكيك، فويلي يوم أموت أنا ولا أجد من يعتني بي وبقبري. أرقُد هـنا في جـوف هذه الصخرة التي أحببتها وأحببت فيها الهدوء والسكينة. لم يعد في قدرتك العمل. إني أطلب لك الراحة فاطلب أنت لي القوة لأواصل جهادي.

 

 قلب أمّي

  كانت أمي لا تعرف إلا القليل من الكتابة والقراءة، عكس والدي الذي كان يكتب ويقرأ، ومن هواة المطالعة. ولا أذكر أنني شاهدت أمي تقرأ كتاباً أو تستمع الى "الراديو". فهي دائماً منهمكة، مشغولة، في أمور البيت وشؤون زوجها وأولادها. ونادراً ما كانت ترتاح خلال النهار. وإذا وجدت دقيقة فراغ وتمددت على السرير فلا يغمض لها جفن، فتراها تنتصب واقفة لأقل حركة.

 وكـنت، وأنا الصـغير بين إخوتي، الولد المدلل. وبالرغم من ذلك كنت لا أعترض على ملاحظات أمي ولا أناقشها في آرائها ومعتقداتها. أمي طيبة القلب، حنونة، تجد لكل خطأ عذراً. لا تنتقد أحداً ولا تحقد على أحد. وكان والدي ذا طموح كبير وذكاء حاد، وقد وهبه الله نعمة الحديث الشيّق وطرافة سرد القصص والنّكات. وكان يحب سياسة الضيعة، وكان مختارها لوقت من الأوقات، إلا أن أمي كانت تكره ذلك، وتقول: "السياسة تجلب الزّعل...". وأذكر أن والدي خرج من البيت في أحد أيام الثلج، ولم يعد عند الظهر كعادته كل يوم. حادث لن أنساه ما حييت، حصل في يوم من أيام الثلج. وكان يوم عطلة. فقد خرج والدي من البيت باكراً. وعندما شارفت الساعة الثانية عشرة ظهراً ووالدي لم يعد بعد، وقفت أمي خلف النافذة، وقد تبدّل وجهها ومال الى الإصفرار وبدأت يداها ترتعشان، وفتحت النافذة فهالها الثلج المتراكم في الخارج. وبما أنني كنت أنا أيضاً أنتظر والدي وقلقاً عليه مثل أمي، لم يسعني إلا أن أقول لها: "أنا مشغول البال مثلك يا أمي. لماذا تأخر والدي؟". ولم تكد تسمع كلامي هذا حتى اندفعت جهة الباب، وهي تقول: "لم تهدأ عيني اليسرى منذ الصباح. إنها ترف". وأمسكت بفستانها وأنا أبكي وأتوسل إليها: "أمي لن أدعك تخرجين. الدنيا ثلج". وهرولت مسرعاً. كنت وحيداً في الطـريق الأبيض، وقطـع الثلج تتساقط وتغطي رأسي وثيابي. وكنت أتحدث مع نفسي: "أنا أعرف أين يكون والدي. فقد سألني أبو فريد البارحة: أين أبوك يا صبي؟ قل له: أبو فريد مشتاق إليك. وأبو فريد مثل والدي شيّق الحديث، وهو لحّام. يدخل الزبون الى دكانه ولا يخرج قبل ساعة. فهو يقدّم له كرسـياً ويـبدأ بسـرد قصصه ونكاته. ويطير الوقـت دون أن يشعر به الزبون لطرافة ما يسمع".

في الطريق شاهدت بعض رفاقي يلعبون بالثلج في حي من أحياء الضيعة يقع فوق الطريق العام. فناديتهم ونادوني وبدأت المعركة بيننا. أنا وحدي وهم أكثر من عشرة. وتساقطت كتل الثلج على رأسي وظهري وصدري وحولي. فزحفت على بطني باتجاههم، ولما صرت قريباً منهم انتصبت واقفاً ورحت أقذفهم بكتل الثلج. واشتدت بي الحماسة وهممت بالهجوم عليهم، لكنني تزحلقت على قطعة جليد ووقعت على الأرض بين قهقهات رفاقي وسخريتهم. نسيت من حملني الى البيت. لم أكن أقوى على المشي، وقد انتابني ألم في رجلي اليمنى، وتصبب العرق من جبيني من شدة الألم. إنما أذكرأنني شاهدت والدي في البيت. لم نلتق في الطريق. عندما عاد والدي الى البيت كنت أنا في المعركة مع رفاقي وسط طريق آخر. وأذكر أن أمي بقيت طيلة ما تبقى من ذلك النهار وطوال تلك الليلة الى جانبي، تارة تشدني الى صدرها وتارة ثانية تفرك رجلي بيديها الناعمتين. وكانت ذات خبرة في العلاج. فركت رجلي بالزيت الساخن، وسقتني فنجاناً من الزهورات، ولفتني بالصوف. وفي صباح اليوم التالي قفزت من تحت اللحاف ورحت أركض في البيت وأنا لا أصدق بأن رجلي شفيت. وكيف أناقش أمي في معتقداتها وكانت على حق عندما رفّت عينها اليسرى؟