ثقافة وفنون

جوزيف عازار صوت هادر كالبحر ومُعبّر كالحكاية
إعداد: أكرم الريّس - كاتب وباحث في علم اجتماع الفنّ

أكرم الريّس – كاتب وباحث في علم اجتماع الفنّ

 

”صَف العسكر“ وأخواتها
من المعلوم أنّ إيلي شويري كتب ولحّن مجموعة كبيرة من الأغاني الوطنية، ومنها: «تعلى وتتعمّر يا دار» لصباح، و«بلدك بلدي» و«بلدنا يابا» و«أول آب» (عيد الجيش) لسلوى القطريب، و«يا أهل الأرض» لغسان صليبا، و«قوم تحدى الظلم تمرد» لماجدة الرومي، و«عزك يا دار انكتب» لمعين شريف. كما قدم بصوته «خيّل يا بطل بالساحة»، و«يا ناس حبو الناس»، و«صف العسكر»، و«سامع صوتك يا بلادي»، و«بلد الحبايب»، و«اسرج بالليل حصانك» بالمشاركة مع داليدا رحمة، و«عالخير تواعدنا» و«اعتز الأرز».

عرفته أعمدة بعلبك يوم صدح بلبلًا غرّيدًا في مهرجاناتها الدولية مطلع الستينيات من القرن الماضي مع السيدة فيروز والأخوين رحباني، فدخل الفن من بابه الواسع. يتكوكب في جعبته قرابة الأربعين عملًا مسرحيًا غنائيًا قدمها في لبنان، ومن ثم على كبريات المسارح في الدول العربية وأوروبا والأميركيتين والصين وأستراليا. إنّه جوزيف عازار الذي يسكن صوته وجدان الملايين من محبيه.
ولد الفنان جوزيف عازار في جزين، البلدة الرابضة على سفح جبل نيحا والمعروفة بشلالاتها، ونشأ في بيت رأسماله الأخلاق والمحبة والتقوى. ورث جمال الصوت وقوته من والده الذي كان يؤدي المواويل البغدادية وأغاني عبدو الحامولي وزكريا أحمد، وشارك في الترتيل منذ نعومة أظافره حين كان طالبًا في مدرسة دير سيدة مشموشة قضاء جزين. التحق بالمعهد الموسيقي الذي أداره عازف العود والملحّن فريد غصن، وعمل لفترة في التعليم قبل أن يتفرغ للفن.

 

ورود في بستان الذاكرة
في مناسبة عيد الجيش، تأتي هذه السطور لتضيء على أحد المحاور الأساسية في مسيرة جوزيف عازار، ألا وهي الأغنية الوطنية، خصوصًا أنّ له في هذا المضمار الكثير من الأعمال التي تراكمت عبر السنوات وأصبحت ورودًا في بستان الذاكرة الشعبية. نذكر منها «صفوا البيارق»، «عالصخر زرعتك»، «عرشك مرمر»، «جبال العالي»، «جندي بلادي»، «كن خافقًا يا علمي» بالإضافة إلى «يافا» مع الأخوين رحباني، و«هيلاليصا» مع زكي ناصيف و«قالوا انطوى سيف البطل» من نظم موريس عواد ولحن وليد غلمية، و«وطن واحد جيش واحد» مع محمد سلمان وبمشاركة صباح ومحمد جمال و«بكتب إسمك يا بلادي» مع إيلي شويري، وهي أضحت نشيدًا وطنيًا شعبيًا يتخطى لبنان ليتردّد على كل لسان في جميع أنحاء الدول العربية.

 

الأغنية والوطن والحياة
يستقبلنا في بيته مرحّبًا بحرارة، وإذ تتجه أنظارنا إلى حيث صور وأوسمة ودروع وسوى ذلك من علامات التكريم الذي حفلت به مسيرته، يُشير إلى موضع محدد: هذه الصورة يوم كرّمتني قيادة الجيش وهذا درع الجيش التذكاري.
يُبهرنا بحيويته وقوة ذاكرته التي تحفظ أدق التفاصيل، وتختزن تراثًا جماليًا نسجه إبداع شعراء كبار، وبات من محددات رؤيته للوطن الذي غنّاه.
نسأله عمّا تمثّله الأغنية الوطنية بالنسبة إليه؟ فيجيب مختصرًا: الوطن هو الوجود والكرامة والهوية. وبالتالي، الأغنية الوطنية هي أغنية الوجود ومحطة أساسية في حياة الفنان كونها تنبع من ضمير الشعب، وحب الوطن واجب مقدس وهو العنوان الأساسي للبقاء والوجود.

 

هل تستطيع الأغنية أن تروي سيرة شعب؟
يقول عازار: «الأغنية هي تعبير صادق عن ذكرياتنا وأمانينا، بحلاوتها ومرارتها. وهي الصورة الصادقة لأفراحنا وأحزاننا، كما أنّها مرآة تعكس الماضي في شجونه وشؤونه. فالأغنية بشكلٍ عام تجسيد للحياة، لأنّها الترجمة الأمينة للعواطف بألوانها وأطيافها المتعددة. بالاختصار، الأغنية وثيقة تاريخية وصورة حية عن حضارتنا والتاريخ الغنائي والموسيقي، كونها تنبع من قلب الشعب ومن واقع حياته ومما يتم تناقله عبر الأجيال».
ويتابع ردًا على سؤال: «أتمنى أن يحافظ الشباب على وجودهم في الحياة، وعلى كرامتهم وكرامة الوطن. ليس هنالك ما هو أغلى من الوطن، لأنّ الإنسان من دون هوية لا قيمة له. أحزن على من ينسى قيمه وهويته والروح الوطنية وأقول: الله يهديه». ثمّ يستطرد مقتطفًا قسمًا من حوار قدّمه في مسرحية «أوبرا الضيعة» كتبه طلال حيدر: «الله يهدّي الحال، انشالله يروق البال. هيدي الضيعة ضيعتنا، نحنا أهل وإخوان. شو هالضيعة مرصودة، الفتنة بتخلق وين ما كان، الفتنة شغل الشيطان. الصلح بدو مرجلة، والمحبة بدا رجال. خَلّوا للصلح مطرح، من حق الضيعة تفرح».

 

بكتب إسمك يا بلادي: النشيد والحكاية
يقع نشيد «بكتب إسمك يا بلادي» في قالب الطقطوقة الموسيقي وهو في مقام الراست وإيقاع صعيدي، ويمتاز بصياغة لَحنية شرقية تتنوع عبر مسار لحني ذي حركة تصاعدية لَحنية متكررة الأوجه، تتبعها حركة هبوطية للختام. تُشعّ هذه الأغنية بمضامينها بالصدق والشموخ والعنفوان، هي أنشودة الوفاء «لأوفى دار» والحب الأسمى «لأرض النور». نسأل عازار عن هذا العمل الذي نظمه ولحنه الملحن والمطرب إيلي شويري، فيقول: «غنيت له أكثر من أغنية وعلى رأسها «بكتب إسمك يا بلادي»، التي كنت أوّل من أنشدها في العام 1974. أذكر أنّ إيلي اتصل بي قبل أسبوع من ذكرى الاستقلال، وقال لي إنّ هذا النشيد يليق بصوتك ونريده أن يكون هدية إلى الجيش اللبناني، وهو ما حصل. سجّلنا الأغنية في استديو نبيل ممتاز، وتوجّهنا إلى مديرية التوجيه وأهديناهم هذا النشيد، ثمّ صورناه في تلفزيون لبنان – القنال 11، حيث استقبلني حينها الراحل رياض شرارة وقدّمنا أمسية بمناسبة الاستقلال».
من جهته، يروي إيلي شويري في إحدى مقابلاته ظروف كتابة هذه الأغنية وتلحينها، فيقول: «كنت في طريق السفر في رحلة فنية إلى أميركا الجنوبية مع الفنان نصري شمس الدين في العام 1967. حان موعد الإقلاع من مطار بيروت عند الغروب، ومع اتجاه الطائرة نحو الغرب كانت الشمس لا تغيب، وذلك عكس ما يفيد به الشعراء في قصائدهم. بقيت ذكرى تلك اللحظات في وجداني لتظهر من جديد في إحدى أوائل أعمالي الوطنية».
يستذكر عازار إيلي شويري بكثير من التقدير والحب، ويقول: «عاصرتُ الراحل إيلي شويري على مدى ما يقارب الستين عامًا. غنّينا سويًا مع الأخوين رحباني عندما كنت أؤدي دور «راجح» في مسرحية «بيّاع الخواتم» بينما هو يلعب دور «عيد»، وصولًا إلى أعمالنا مع فرقة كركلا. هو زميل ورفيق العمر وقيمة فنية كبيرة، كان مبدعًا في نصوصه وألحانه وتمثيله وغنائه. غنّى الحب والوطن النابعَين من التراث الحضاري العظيم».
ويعود عازار إلى أغنية «بكتب إسمك يا بلادي» التي لاقت انتشارًا واسعًا في العالم العربي مشرقًا ومغربًا، فيروي: «في العام 1979 قدّمت حفلاً غنائيًا برفقة فرقة فولكلورية عند افتتاح كازينو مطار حلب الدولي ومن ثم حفلًا آخر بمناسبة انتخاب ملكة جمال جامعة حلب. التقيت حينها بالممثل الكبير دريد لحّام، وكان رئيسًا لنقابة الفنانين في سوريا، فطلب منّي لحّام أن أعيد غناء الأغنية مرة ثانية، وتواصل معي بعدها لنلتقي مجددًا في دمشق. اعترف لي يومها أنّ الأغنية دخلت إلى قلبه، وحفظها وغنّى لاحقًا مقطعًا منها في ختام مسرحيته كاسك يا وطن». كذلك في بلاد الاغتراب، سبقت أصداء هذا العمل الرحلة الفنية التي قام بها عازار في العام 1982 مع فرقة بيت الدين للرقص الشعبي وعازف الناي ومُعدّ البرنامج جوزيف أيوب إلى أميركا الجنوبية، إذ تبين أنّها قد تُرجمت إلى اللغة البرتغالية، وكان لها أثر كبير في جميع الحفلات. وقد تكرر الأمر حينما قدمناها مجددًا مع كركلا في الجزائر وفي أبو ظبي، وهي ما زالت محافظة على وهجها حتى الآن».
عن وجوه وأعلام في مسيرته
خلال مسيرته الطويلة، عمل عازار مع جيل الرواد من شعراء وملحنين ومغنين باتوا مرجعًا في فنون الغناء كما في الإنشاد الوطني. نسأله أن يصف بكلمات موجزة مجموعة منهم، فيقول:
فيروز والأخوان رحباني: صُناع المجد الفني وأسياد المسرح الغنائي. حالة لن تتكرر. أعمالهم خالدة على كل الأصعدة، من كلمة وشعر وموسيقى وغناء. وصلوا إلى المستوى العالمي مع الصوت الخالد فيروز، الرمز والمثال والترنيمة التي لا تنتهي.
زكي ناصيف: شيخ الفولكلور. كان ملهِمًا وبصماته واضحة المعالم. غنّى له كل الكبار.
فيلمون وهبي: من روّاد الأغنية اللبنانية. يمسك مفتاح الأغنية الشعبية بين يديه. وهو قدمها في أجمل حللها مع فيروز وصباح ونجاح سلام وسميرة توفيق.
صباح: أهم صوت غنّى الفولكلور، قيمة فنية كبيرة.
روميو لحود: المهندس، المخرج، المؤلف، الملحن، المنتج، والمثقف.
وديع الصافي: مطرب المطربين، لا يتكرر إلا بإرادة إلهية.
عبد الحليم كركلا: فنان كبير وخلاق، متألق دائمًا، رأسماله الإبداع. هو ابن هذا التراث الحضاري العظيم ويمتطي صهوة الأصالة والجمال. من أهل القمم، وصل إلى العالمية في أعماله الفنية وعبر مسيرة مُشرِّفة.
زكي ناصيف: شيخ الفولكلور. كان ملهِمًا وبصماته واضحة المعالم. غنّى له كل الكبار.