- En
- Fr
- عربي
رحلة في الإنسان
تثبت الدراسات والأبحاث أن ذكاء الإنسان قابل للتطور، وبالتالي فإن هذا الذكاء ليس محدودًا بالقدرات العقلية التي يولد الشخص حاملًا لها. فكيف يمكن تنمية الذكاء؟
إنها مسألة خيار
حسب ما يؤكد الباحث النفساني الأميركي كارلوس دويك، فإن نسبة الذكاء تعتمد على طريقة التفكير أو رؤية الذات. لذا فإنّ الذين يؤمنون بمقدرتهم على زيادة معدّل ذكائهم، يتمكّنون فعلًا من التعلّم واكتساب الخبرات والمعارف، وصولًا إلى مراحل متقدّمة من الإبداع. أمّا غير المؤمنين بذلك، أو اليائسين من تطوير قدراتهم، فإنهم يراوحون أمكنتهم على جميع الأصعدة. وذلك يعود بحسب اعتقاد دويك إلى الأسباب الآتية:
المؤمنون بنمو قدراتهم العقلية، لا يقلقون بشأن نظرة الناس إليهم، لذلك يواجهون التحدّيات ويصمدون في وجه المصاعب.
في المقابل، فإنّ المقتنعين بمحدودية قدراتهم، يهربون من المواجهة خوفًا من الفشل. وهذا الخوف بالذات هو الذي يمنعهم من التقدّم، الأمر الذي يكرّس شعورهم بالنقص الناجم عن الفكرة المكوّنة عن ذواتهم. لكن هؤلاء يتقدّمون في حال وجود من يقنعهم بخطأ اعتقادهم، ويؤّمن تجاوبهم مع الجهود المبذولة لتفعيل ذكائهم.
الذكاء إذًا قابل للتّنمية في حال وجود الظّروف المؤاتية. وعلى هذا الأساس كانت المحاولات الناجحة التي أجرتها مجموعة اختصاصيين، كرّسوا الوقت والجهد لمساعدة من هم بحاجة إلى التوجيه والدعم. وفي الواقع، فإنّ المعنيين بهذه المساعدة تمكّنوا فعلًا من الاستقواء على الفشل، وتخلّصوا من شعور النقص والاكتئاب، وصولًا إلى استبدال الخمول بالعمل المبدع.
كيف يتم ذلك وما هي فوائده؟
بالنسبة إلى فوائد التخلّص من الفشل فهي كثيرة، وأهمها، تفعيل التعاطي الإيجابي مع الغير من أجل الوصول إلى مجتمع أفضل. فالمعروف أن المقصّرين في مجالي العلم والعمل، يعتبرون أنفسهم أقلّ شأنًا. وهذا يمنعهم من مجاراة من يعتبرونهم أكثر مقدرة وذكاء. والأهم أنّ تراكمات الضغوط الناجمة عن هذا الشعور، تشعل عدائهم تجاه المعنيين بمعاناتهم، الأمر الذي يتسبّب بأشكال من العداء والنفور على جميع الأصعدة. وقد ركز الاختصاصيون على هذه النّاحية البالغة الأهمية، وهدفهم من ذلك، خلق بيئة أفضل، في الدراسة أو في العمل على السواء، والإفادة من قدرات أفراد اعتبروا في السابق عالة على المجتمع.
أما في ما خصّ حدوث التغيير المشار إليه، فالأمر يتعلّق بتركيبة الدماغ وبكيفيّة عمله.
كيف يعمل الدماغ؟
بحسب اختصاصيي الأعصاب يعمل الدماغ كالعضلات. فهو يتغيّر ويقوى عندما نعمد إلى تشغيل الفكر، ويضعف عندما نرتمي في أحضان الكسل والخمول. وكانت مجلّة العلوم الأميركية قد عرضت في إحدى الدراسات كيفية نمّو الوظائف الدماغية لدى المواظبة على الأعمال الفكريّة. فالخلايا الدماغيّة تعمل مترابطة عبر وصلات عصبيّة تؤمن تبادل المعلومات، وهذا يتم عن طريق شبكة بالغة التعقيد. والأهم كما ثبت بالمراقبة، أنّ هذه الوصلات المتشابكة والبالغة الصغر، تقوى وتتكاثر عندما نواجه التحدّيات، وننجح في تعلّم أشياء جديدة. وهذا يجعل أدمغتنا أكثر مرونة وذكاءنا أكثر اتّقادًا. ومع الوقت تسهل في نظرنا أمور طالما عجزت عقولنا عن استيعابها.
ماذا عن الحيوانات والأطفال؟
قبل التوصّل إلى جمع هذه المعلومات عبر دراسات مكثّفة، كان علماء الأعصاب قد عملوا على مراقبة سلوك الحيوانات. ونتيجة لذلك، اكتشفوا أن ذكاء الحيوانات يختلف بحسب طريقة عيشها وأمكنة وجودها. فتلك التي تعيش في الغابات وعلى مقربة من البشر، تواجه تحدّيات معقدة، وتصبح أكثر ذكاء من مثيلاتها التي تعيش وحيدة في الأقفاص.
فالحيوانات التي تتربّى في عزلة يغلبها النعاس معظم الوقت. بينما نجد أنّ تلك التي تعيش ضمن مجموعاتها أو برفقة الإنسان، تكون أكثر يقظة ومقدرة على التحايل وتجنّب المآزق، والأمر نفسه ينطبق على الأطفال.
إنّ الأطفال الذين يحظون بالعناية والتشجيع، يتمكّنون من تنمية قدراتهم العقلية، ويثبتون بالتالي أقدامهم في الحياة، بعكس الذين يواجهون النبذ والاهمال. ومن هنا الفرق الشاسع بين ذكاء الأطفال الذين ينشأون في بيئات حضارية تتميّز بالثقافة والعلم، وبين الذين ينشأون في أحضان الجهل والفقر. إذًا لا بد من البحث في تأثير البيئة الحاضنة على تنمية القدرات العقليّة.
بين الذات والغير
إن تشجيع الطلّاب خلال الدراسة من شأنه أن يفجّر قدراتهم الكامنة، فالإيمان بهذه القدرات، لا ينبع فقط من الذات، بل يستمدّ أيضًا من الغير، فالذين يحتاجون إلى تنمية ذكائهم، يحتاجون أيضًا إلى مؤازرة سواهم. والمؤازرة لا تتم إلّا إذا كان أصحابها مقتنعين بالفعل بنظرية تنمية الذكاء. وقد شملت الدراسات - بالإضافة إلى الطلاب - العاملين في القطاعين العام والخاص، بهدف لفت الأنظار إلى هذا الواقع البالغ الأهميّة، وخصوصًا على صعيد تفعيل طاقات الموّظفين.
وأكّدت الأبحاث التي أجريت في هذا المجال، أنّ المؤمنين بنظريّة تنمية الذكاء من مدراء وأرباب عمل، تمكّنوا من تفعيل طاقات الموظّفين، في وقت فشل سواهم من غير المتحمّسين لهذه النّظريّة. ومن هنا القول إن المقدرة على تنمية الذكاء، والتي تعتبر اليوم واقعًا قابلًا للتطبيق، تحتاج إلى عدة مقوّمات خارجية في حال لم تكن متجذرة في الشخصية، نتيجة عوامل مختلفة. أهم هذه المقوّمات: المحيط والبيئة الاجتماعيّة، والتربية العائليّة. وفي هذا السّياق، يتطرّق الباحثون إلى أخطاء تربويّة شائعة تحجّم الطفل وتشعره بالعجز والاحباط، وأهمها إحاطته بالمديح المفرط.
التأثير السلبي للمديح
أكّدت الدراسات الحديثة أن المديح المفرط الذي غالبًا ما يحيط به الأهل أطفالهم، يعطي في الواقع نتائج عكسيّة. فالطفل الذي يقتنع بأنه ذكي حسب ما صنّفه والداه، يشعر بالاسترخاء. وهو بالتالي يفقد الاهتمام بالتحدّي والمواجهة، ثمّ يشعر لاحقًا بالنقص والمهانة، وقد يفقد أحيانًا الثقة بوالديه الذين صنّفوه «زورًا» بما لا يتّفق وقدراته.
على هذا الأساس، يتوجّه الاختصاصيون إلى الأهل طالبين إليهم التسلّح بالموضوعيّة بشأن تشجيع الطفل ودفعه على دروب النجاح، من خلال إفهامه أنّ تحقيق النجاح يرتبط بالعمل والجهود ومواجهة التحديّات. فهذا التوجّه كفيل بشحن قواه وتأمين استفادته من قدراته القابلة للتطوّر، وهو يتعدى دور الأهل إلى المربّين المفترض اقتناعهم بنظريّة تنمية الذكاء.
هذه وسواها من المعطيات المتعلّقة بنظريّة تنمية الذكاء، تقود إلى الغوص عميقًا في أساليب التطبيق على أرض الواقع. وعلى الرغم من أنّ الباحثين يسعون إلى تحديد المزيد من هذه الأساليب، إلّا أنّ همّهم الأساسي ينحصر في كيفيّة إيصال هذه النظريّة وتعميمها. وفي حال تمكّنوا من ذلك، يصبح بالإمكان توسيع رقعة الحلم. الحلم المتعلق بإنتاج عقول متطوّرة تسابق الزمن.