- En
- Fr
- عربي
رحلة في الانسان
حقبة الصباح، أو النصف الأول من النهار، مرحلة تحتضن في توقيتها المقتضب زخم النشاط البشري الذي يطاول عبرها قمة العطاء. فأثناء هذه المرحلة، يكون الإنسان كما سائر الكائنات الحية، قد عبأ طاقته من ساعات النوم، وأصبح مهيئاً للعمل والإنتاج في ظل الضغوطات الجسدية والفكرية كافة.
هذا من حيث المبدأ. إلا أن الواقع قد يبرز عموماً بأشكال متباينة تضعنا أمام تساؤلات عدة، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالكسل الصباحي، وما يرافقه أحياناً من اضطراب في المزاج، وتلبد للفكر والرؤية.
فما سبب هذا الاضطراب في انسجام الجسم مع إيقاع التوقيت الطبيعي، وكيف بإمكاننا ان نسخّر هذا التوقيت لمطالب حياتنا اليومية؟
الإنسان مبرمج بالفطرة
من المعترف به، أن الإنسان مبرمج بالفطرة للقيام بالمهام الأكثر صعوبة ودقة خلال الفترة الصباحية التي تلي النوم الهادئ. إلا أن الكثيرين يخرجون عن هذا المبدأ، إذ يستيقظون وهم يشعرون بالكسل، ولا يستعيدون نشاطهم إلا بعد ساعات. وهؤلاء يضعون اللوم في الغالب على ضغوطات الحياة، أو حال الطقس وسواها من المسببات غير المنظورة. وعلى الرغم من الدراسات التي تأخذ بالاعتبار هذه الحالة الشائعة، وما يرافقها من تأرجح بين الشعور بالكسل والخمول من جهة، والنشاط من جهة أخرى، فإن آخر التقارير قد أكدت على أن في داخل كل منا ساعة بيولوجية، أو نظام آلي خفي يضبط إيقاع يومنا بالتزامن مع تأرجح مستوى الهرمونات التي تفرزها أجسامنا خلال اليوم. الى ذلك، تم التأكيد على وجود تزامن طبيعي بين هذا النظام الآلي والطرق العفوية التي يعتمدها الانسان عموماً من أجل تنظيم حياته اليومية.
ما هي الساعة البيولوجية؟
نظرية الساعة البيولوجية، أو ما يعرف بالإيقاع النمطي اليومي، اكتشفت في أواخر حقبة السبعينيات، وذلك من قبل فريق من العلماء في جامعة مانشيستر الأميركية، بقيادة الدكتور جيم واتر هوس. ومن أجل إثبات هذه النظرية، راقب الفريق مجموعات من المتطوعين الذين وزعوا على وحدات مزودة بجدران عازلة للصوت والضوء والحرارة. وعُرف أن هؤلاء قد منعوا خلال فترة التجربة، من النوم طوال أربع وعشرين ساعة، كانوا يتناولون أثناءها وجبات خفيفة في أوقات محددة، من دون أن يتمكنوا من معرفة التوقيت اليومي، أو التمييز بين عتمة الليل ونور النهار. وعلى الرغم من التغييرات والضغوطات التي واجهـوهـا، بما فيها الحؤول دون رغبتهم بالنوم والاستلقاء، فقد أثبتت نتائج الفحوصات المخبرية التي أخضعوا لها في حينه، أن أجسامهم قد احتفظت عموماً بنمط أدائها الطبيعي وخصوصاً في ما يتعلق بعدد وسرعة دقات القلب، ومعدل النشاط الحيوي، إضافة الى مستوى إفراز الهرمونات التي تنظم عمل الوظائف الحيوية. وهذا بالطبع يثبت وجود ساعة بيولوجية دقيقة تخضع إيقاع يومنا لبرنامج إيقاع منظم، حتى في أصعب الظروف.
كيف تعمل هذه الساعة؟
تعلن هذه الساعة بداية اليوم ما بين السادسة والسابعة صباحاً، وذلك مع ارتفاع هرمون الكورتيزول المحفّز للنشاط والتوتر، ويترافق ذلك مع زيادة إفراز مادة الغلوكوز أو سكر الدم، ما يؤدي الى شحن الجسم بالطاقة وينبه الوعي. هنا تختلف الآراء في تحديد توقيت مراحل النشاط والكسل أثناء اليوم، هذا علماً أن النظرية التي أفرزتها الدراسات، أثبتت أن النشاط الجسدي والفكري يبلغ أوجه خلال ساعات الصباح الأولى، ولا يلبث أن يتدنى ما بين الواحدة والرابعة بعد الظهر، ليرتفع مجدداً وصولاً الى القمة مرة أخرى في حوالى السادسة مساء. بعدها تبدأ الغدة الصنوبرية في الدماغ بإفراز هرمون الميلاتونين الذي يزودنا بالنعاس تدريجاً، وذلك في حوالى التاسعة ليلاً.
هنا يبرز السؤال التالي:
إذا كانت وظائف أجسامنا تسير وفق نظام آلي مبرمج، فلماذا يستيقظ البعض وهم مفعمون بالنشاط، بينما يظل آخرون يتخبطون بالكسل والخمول؟
السبب كما يصفه الدكتور هوس مكتشف الساعة البيولوجية، هو أننا لسنا جميعاً أوفياء لآلية التزامن الفطرية، أي أن بعضنا، لأسباب مختلفة، لا يتلقى إنذارات جسمه في الوقت المحدد، الأمر الذي يتسبب بهوة زمنية تفصل بين توقيت الجسم لبداية اليوم، وبين استجابة الدماغ لهذا التوقيت. من هنا الفرق في مستوى النشاط الصباحي بين شخص وآخر. الى ذلك، يرى الباحثون أن التوقيت الطبيعي لعمل أعضاء الجسم، هو فعلياً بحدود الخمسة والعشرين ساعة، وهذا بالطبع يعطي تفسيراً منطقياً للاختلاف في توقيت الأجسام لبداية اليوم، كما يوضح سبب معاناة الكثيرين من الأرق أثناء الليل.
من ناحية ثانية تؤكد الدراسات في هذا المجال، أن النشاط الجسدي والفكري الذي يعاود الوصول الى الأوج قرابة المساء، يميز عموماً هذه المرحلة من اليوم بطابع حيوي خاص. والدليل جملة الأنشطة التي تمارس خلالها، ومنها المباريات الرياضية والمحاضرات وسواها من الأنشطة اليومية المسائية. على كل، فلا أحد ينكر حصول الإنحدار الحاد في مستوى هذا النشاط ليلاً، وخصوصاً بعد منتصف الليل، الأمر الذي يؤدي الى نقص الوعي والتركيز وبالتالي حدوث الأخطاء والحوادث القاتلة أحياناً. تجدر الإشار هنا، الى أن كارثة إنفجار مفاعل شيرنوبيل النووي في الاتحاد السوفياتي السابق، والتي أقلقت العالم خلال حقبة الثمانينيات، حصلت كما ثبت لاحقاً نتيجة أخطاء ربما ارتكبها العاملون في المفاعل أثناء الليل.
كيف نستفيد من عمل هذه الساعة؟
ساعتنا الداخلية إذن تعمل آلياً لتخضع نمط يومنا لحاجات وظائفنا الحيوية. من هنا التأرجح الذي أتينا على ذكره، والذي نلمسه يومياً في مستوى النشاط والطاقة، ونحاول أحياناً تجاهله لأسباب مختلفة.
لإلقاء المزيد من الضوء على الساعة الداخلية وأهمية الإلتزام بدوامها اليومي، وضع الاختصاصيون نصائح الهدف منها توعيتنا الى ضرورة الإتحاد مع ذواتنا، والاستفادة من توقيت أجسامنا من أجل تحسين أدائنا الفكري والجسدي. وهنا بعض التوصيات المطروحة:
- مع ارتفاع الهرمونات الصباحية المنشطة، إضافة الى سكر الدم وهرمون الأدرينالين المسكن للألم، يوصى بالقيام بالأنشطة الجسدية والفكرية المعقدة خلال هذه المرحلة للاستفادة قدر الإمكان من معطياتها. الى ذلك ينصح بالاستفادة من الساعات الثلاث الأولى التي تعقب الاستيقاظ من النوم لحفظ المعلومات السريعة. فخلال هذه المرحلة تكون الذاكرة القصيرة المدى مؤهلة لاستقبال المعلومات الجديدة أكثر من أي وقت آخر.
- إن انحدار مستوى النشاط بعد الثانية عشر ظهراً، يعني أننا مهيئون بالفطرة للاستفادة من قيلولة أو استراحة بعد الظهر. لذا فإن مخالفة هذا المبدأ يعرضنا لمشاكل نقص الوعي والتركيز، إضافة الى مخاطر صحية غير محددة.
- بعد الرابعة عصراً، يعلو مستوى الهرمونات المنشطة ليصل الى الذروة مجدداً في حوالى السادسة مساء. لذا ينصح بالاستفادة من هذا التوقيت قدر المستطاع قبل بداية إفراز هرمون الميلاتونين الذي يجلب النعاس. تجدر الإشارة هنا الى أن الدماغ يكون بحدود السادسة مساءً، أكثر مرونة واستعداداً لاستيعاب المعلومات المنطقية والعقلانية. الى ذلك ينشط عمل الذاكرة البعيدة المدى. لذا ينصح باجراء الأبحاث والتركيز على حفظ المعلومات المعقدة عند المساء.
- مع بدايـة إفـراز هرمون الميلاتونين ليلاً، يتباطأ عمل جهاز المناعة، ويصبح الجسم أكثر عرضة للإصابة بالالتهابات. من هنا ينصح بعدم تجاهل إنذار النعاس، والخلود الى الراحة تسهيلاً لعمل وظائف الجسم، وتجـنباً للعقـاب التي قد تفرضه الطبيعة بحق مخالفي قوانينها.
- تجنب قيادة السيادات وتشغيل الآلات ليلاً، وخصوصاً بعد منتصف الليل.
- ينصح مرضى القلب والشرايين بعدم التعرض للإجهاد الزائـد قبل الظـهر، وخصوصاً في الصباح البـاكر، لأن تفـاعل الإجـهاد مع ارتفـاع الهرمونـات المنشطة وسكر الدم، قد يتسبب بمخاطر لا يمـكن حصرهـا.