هوايات ومغامرات

عَلَما لبنان والجيش يرفرفان فوق أعلى قمة أفريقية
إعداد: جان دارك أبي ياغي

واجه العميد المهندس ريشار مالك الذي تجذبه الجبال الشاهقة تحديًا جديدًا هذا العام، مؤكّدًا أن لا شيء مستحيل إذا تحلَّى الإنسان بالصبر والإرادة...
ترافقه هواية المشي في طبيعة لبنان الخلاّبة وتسلّق جباله واكتشاف أعماق أرضه منذ مطلع شبابه. لكن هذه الهواية بدأت منذ خمس سنوات تتحوّل إلى مغامرة إذ قرّر تسلّق أعلى جبال العالم ورفع علَمَي لبنان والجيش على قممها.
في جردة سريعة نكتشف أن في رصيد العميد المهندس مالك حتى الآن، الآتي: وصل إلى المخيم الرئيسي لجبل أنابورنا في سلسلة جبال الهيمالايا في النيبال (2014). تسلّق جبل أرارات في تركيا (2015). وجبل كازبيك في جورجيا (2016). وقمَّة الجنّة الكبرى في جبال الألب الإيطالية(2017). أما إنجازه الأخير، فكان في 25 آذار الماضي، حين رفع علَمَي لبنان والجيش على قمّة جبل كيليمنجارو في تنزانيا، وهو أعلى جبل يتسلّقه حتى الآن.

 

«شيطان البرد»
يقع جبل كيليمنجارو أي جبل شيطان البرد «بالسواحيلية» وهي اللغة الرسمية لتنزانيا، في شمال شرقي تنزانيا، ويتألّف من ثلاثة مخاريط بركانية هي: كيبو(أعلى قمة)، وماونسي، وشيرا. ترتفع أعلى قمّة للجبل 5895 مترًا عن سطح البحر. يعتبر هذا الجبل أقرب نقطة تغطيها الثلوج القريبة من خط الاستواء، وهو أعلى جبل قائم بذاته في العالم، وقمّته رابع أعلى قمّة من القمم السبع الأعلى عالميًا.
يتميّز جبل كيليمنجارو عن سواه بأن من يريد تسلّقه عليه المرور بمختلف البيئات المنتشرة ما بين خط الاستواء والقطب، من الغابات المطيرة والسهول إلى الصحارى الجبلية والبيئة القطبية.
للوصول إلى هدفه، قرَّر العميد المهندس ريشار مالك تكثيف التمارين الرياضية داخل النادي وخارجه، فوضع برنامجًا أسبوعيًا لرياضة التسلّق والمشي والتخييم في الجبال اللبنانية، وفي المناطق المرتفعة بهدف التأقلم مع انخفاض مستوى الأوكسيجين والتكيّف مع الأحوال الجوية الشتوية القارسة والصيفية الحارّة على السواء.
 

التسلّق مهارة ولياقة بدنية
تتطلّب مهارة التسلّق لياقة بدنية عالية وحواس مرهفة. فالطبيعة أقوى من الإنسان لذا على المتسلّق أن ينصت إلى جسده وفق ما يقول العميد المهندس مالك، وهو يضيف: صعود الجبل بسرعة يسبّب أعراضًا قد تؤدّي إلى الوفاة. والسرعة مع نقص الأوكسيجين نتيجة الارتفاع تسبّب صداعًا يتطوّر إلى صداع حاد مصحوب بالتقيؤ، وفي هذه الحال على المتسلّق أن يعود أدراجه وإلاّ كان مصيره الموت. عادة على ارتفاع 5000 متر تكون كمية الأوكسيجين نصف الكمية الموجودة عند ارتفاع مستوى سطح البحر، لذلك، فإنّ بعض الرياضيين على الرغم من تمتّعهم بلياقة بدنية عالية، لا يستطيعون إكمال الرحلة.
لتفادي المرض والإعياء في أثناء تسلّق الجبال العالية، يجب التحرّك بهدوء وببطء، وتناول الطعام رغم فقدان الشهية، والشعور بالغثيان، وكذلك، شرب ما لا يقل عن ثلاثة إلى أربعة ليتــرات من المــاء يوميًــا لتعويـض النقص في الأوكسيجــين والسوائــل في الجســم.
 استغرقت مغامرة تسلّق جبل كليمنجارو خمسة أيَّام صعودًا ويومَين نزولًا على طريق مشامي (Machame Route) التي اختارها الدليل المرافق للعميد المهندس ريشار مالك (70 كلم تقريبًا) على الرغم من صعوبتها، إذ إنّها تتيح للجسم التكيّف مع الارتفاع العالي فضلًا عن مناظرها الخلاّبة.
بدأت الرحلة إلى القمَّة تحت الأمطار الغزيرة. فالطريق إلى الجبل تمر بالغابات المطيرة الكثيفة، المغطاة بالضباب، والتي تتأرجح القرود على أغصان أشجارها العملاقة. تطلَّب الوصول إلى مخيّم مشامي (Machame Camp) على ارتفاع 2835م، 5 ساعات من المشي المتواصل اجتاز خلالها المتسلّقون مسافة 12 كلم. عند نهاية منطقة الغابات، تمّ تركيب الخِيَم وتقديم وجبة العشاء قبل الخلود إلى النوم استعدادًا لليوم التالي.
انطلق اليوم الثاني من مخيم مشامي بهدف الوصول إلى مخيم كهف شيرا (Shira Cave Camp) على ارتفاع 3750 م. في هذا اليوم، تغيَّرت معالم الأرض عن اليوم الذي سبقه. المغامرون باتوا الآن في منطقة الأشجار الصغيرة والصخور، تطلّب الوصول إلى المخيّم الجديد حوالى ست ساعات.
من المعروف أنّ الأحوال الجوية على جبل كيليمنجارو تتقلّب بصورة مستمرة وبأوقات متقاربة بين شمس ومطر وضباب ورياح، وعلى المتسلّق أن يكون مستعدًّا لتغيير ملابسه وفق هذا التقلّب، وإلاّ سيصاب بالبرد القارس أو الحرارة المرتفعة.
كان صباح اليوم الثالث رائعًا. في لحظة الخروج من الخيمة، تفاجأ الجميع بجبل قريب شامخ مكلّل بالثلوج. ارتفعت المعنويات وازدادت نسبة التحدّي والإصرار على تحقيق الحلم والوصول إلى القمة. إلى مخيم بارانكو (Baranco Camp) على ارتفاع 3900م، فمخيم برج لافا Lava Tower Camp على ارتفاع 4600م، اجتاز الفريق 12 كلم خلال نحو تسع ساعات. أصيب البعض بالصداع والبعض الآخر بالتقيؤ والغثيان، لكنهم تجاوزوا تلك الأعراض، وتابعوا الرحلة وصولًا إلى المخيم للاستراحة والاستعداد لليوم التالي.
من مخيم بارانكو الذي يشتهر بنباتات الجراونسيل العملاقة Giant Groundsel بدأ العميد المهندس مالك الصعود في اليوم الرابع نحو جدار بارانكو المعروف أيضًا بجدار الإفطار، فالمتسلّقون يتّجهون إليه بعد الإفطار مباشرةً. تسلّق هذا الجدار ليس صعبًا مقارنة بسواه، لكنه خطير في بعض الأماكن. مرّ كل شيء بسلام. ووصل الفريق إلى مخيم كارانجا (Karanga Camp) على ارتفاع 3995 م، بعد حوالى خمس ساعات من السير.

 

إلى القمة
كان اليوم الخامس حاسمًا في هذه الرحلة لبلوغ القمّة ورفع علميّ لبنان والجيش عليها. فعلى المتسلّقين الوصول أولًا إلى مخيم بارافو Barafu Campعلى ارتفاع 4673 م، والانطلاق منه ليلًا نحو القمة. وهذا ما حصل بعد خمس ساعات من السير في أماكن تفوق زواياها 45 درجة.
انطلق العميد المهندس مالك نحو القمة في تمام الساعة الحادية عشرة والنصف ليلًا، وبعد بضع دقائق بدأ يشعر بتدنّي درجات الحرارة في الجو. تشققت شفتاه ورؤوس أصابعه مع أن جسمه محمي بخمس طبقات من الملابس. كان يعرف جيدًا أن عليه متابعة سيره بخطوات بطيئة ومنتظمة، لكنّه كاد أن يستسلم في منتصف الطريق. استمدّ القوّة من التركيز على هدفه مستعيدًا المعنويات العالية والطاقة الإيجابية.
مع شروق الشمس وصل إلى نقطة تسمّى ستيلا (Stella Point) تقع على ارتفاع 5756م، لكنّها ليست القمّة الأكثر ارتفاعًا على الجبل. كان عليه أن يسير بعد 40 دقيقة إضافية ليصل إلى قمّة أوهورو Uhuru Peak. وهناك، على ارتفاع 5895م، رفع علَمي لبنان والجيش، تهاوت أحمال التعب والمشقات، ورفــرف الفــرح مــع الرايــة...
 هي بضع دقائق عاشها على القمّة التقط خلالها الصور التذكارية، وتمتّع بالمناظر الخلاّبة، قبل البدء في النزول إلى المخيم العالي (High Camp) على ارتفاع 3950م، كي لا يداهمه غروب الشمس...