متاحف في بلادي

متحف سليم عراجي في بر الياس
إعداد: جان دارك أبي ياغي

بنادق من عهد "أم فتيل" وأسلحة من كل العصور وفضيات وعملات قديمة

قد لا يكون الوحيد الذي يهوى جمع التحف والقطع الأثرية في لبنان، إنما الأمر المؤكد أن سليم عراجي ابن بلدة بر الياس البقاعية، هو الوحيد الذي يملك أسلحة من كل العصور وتحفاً نادرة ومميزة تمكّن بفضل حكمته وفطنته من الحصول عليها بطرق شتى.

قصدنا منزله ­ المتحف في بر الياس ودهشنا لما رأيناه منذ أن خطت أقدامنا العتبة الخارجية للمنزل، فلم يعد ما شاهدناه في الداخل مفاجئاً. التفاصيل في هذا التحقيق.

 

هواية منذ الطفولة

منذ كان طفلاً صغيراً كان يهوى جمع التحف الفنية لتعلّقه بوطنه وحضارته وتراثه. وسليم عراجي، ابن بلدة بر الياس البقاعية، من مواليد العام 1954، تقاعد من سلك الأمن العام بعد أن خدمه 27 عاماً، وتطوّع لخدمة هوايته التي كرّس لها معظم أوقاته.

حوّل منزله المؤلف من طبقتين متحفاً حقيقياً ازدحمت غرفه بالواجهات الزجاجية التي ضمّت في داخلها مئات القطع الأثرية الضاربة في القِدَم.

ويبدو أن عاشق التاريخ لم يوفر جدران منزله وأروقته الداخلية، لعرض ما ندر من القطع الأثرية التي أثارت دهشة كبار المهتمين باقتناء الآثار، بعدما أمضى نحو 45 عاماً في السعي لإغناء مجموعته.

ما سرّ هذه الهواية؟ وما الفائدة من تفضيله إياها على فرص عمل عرضت عليه ورفضها؟ وهل تستحق كل وقته؟ أسئلة عديدة طرحناها عليه.

يردّ عراجي سبب شغفه بهذه الهواية الى مطلع مراهقته، والى أجواء المنزل الذي ترعرع فيه. ويحاول استعادة الصورة التي أحاطت به حينذاك، إذ كانت القطع الأثرية تزيّن بعض جدران المنزل، "صحيح أن معظمها يخص العائلة وتاريخها، وبعضها من الأدوات الزراعية التي تحاكي تلك المرحلة، إلا أنها شكّلت أساس علاقتي باقتناء التحف والأثريات، حرصاً مني على منعها من الاندثار وتكريماً لتاريخ العائلة والمنطقة".

ويتابع: "لاحقاً تحوّلت هذه العلاقة شغفاً وحباً مدعماً بدراسة ذاتية أنتجت خبرة يشهد لها كل من يتعاطى بهذا الحقل".

 

بنادق ومسدسات من كل العصور

أول ما يلفت الإنتباه البنادق القديمة وعددها يفوق المئة، من دون احتساب المسدسات الآلية التاريخية، يقول: "أفتخر بأنني كوّنت مجموعة تمثل مراحل اختراع البندقية الآلية والتي تعود في التاريخ الى العام 1310. تلك المرحلة عرفت البندقية التي يطلق عليها العامة اسم "أم فتيل" حين كان إعداد البندقية لإطلاق طلقة واحدة يحتاج الى عشر دقائق، وهناك مجموعة العهد الثاني من البنادق والمعروف بـ"عهد الصوان" ويسمي العامة هذا النوع بـ"بارودة أم صوان". والعهد الثالث عهد البندقية التي استخدم في تشغيلها "الكبسون"، حسب العامة. ومن ثم تطوّرت البندقية الآلية الى ما وصلت إليه الآن".

ولأنه لم يتوقف عند اقتناء الأنواع السابقة من الأدوات التي كان جنود كل مرحلة يستخدمونها، فقد حرص وبعد متابعات دامت ثلاثة عقود، على الحصول على أدوات وقطع مثل القبعات العسكرية القديمة (عربية وفرنسية وإنكليزية وغيرها) ، إضافة الى سيوف ورماح ونبال وحراب ودروع وقوس نشاب "وراجيدية"، كانت تستخدم قديماً.

 
 سيوف وعملات وقطع نادرة

الى المجموعة السالفة الذكر، تتوزع بنادق الصيد القديمة في مجموعات متناسقة في غرف المنزل الى جانب الأدوات الملحقة بكل بندقية، فنجد الأواني الخاصة باستيعاب البارود والخردق وجعب الخرطوش ومطرات المياه، وقبلها الجراب، وغير ذلك من الأدوات. وليس بعيداً عنها، اصطفت عشرات المسدسات القديمة المعروفة بـ"الطبنجة" ويرجع تاريخ بعضها الى القرن الثامن عشر. لم يحصر سليم عراجي اهتمامه بالمقتنيات العسكرية، على أهميتها التاريخية والمعنوية خصوصاً إذا علمنا أن من بينها سيوفاً أثرية نقشت عليها كتابات تدل على مرحلتها التاريخية القديمة جداً، فهو يقتني أيضاً مجموعات نادرة من الفضيات (نحاسيات وعاجيات) وعملات إسلامية ورومانية وعثمانية وأخرى لحضارات سابقة، ومجموعة هائلة من الطوابع البريدية القديمة تعود الى مرحلة الستينات.

وارتاحت الى رفوف خشبية أدوات كانت تستخدم مطلع القرن المنصرم في الأعمال الزراعية (كالمنجل، حشوشة، طماق، قحف، شعوبة...) والى مقربة منها، اصطفت مطاحن بدائية لصنع القهوة وهاون لطحن الهال وصناديق مصنوعة من خشب الأرز مطعّمة بالفضة. ويعتـز عراجـي بالمجموعات الـنادرة في متحفه من المسابح والساعات القديمة والقداحات والخواتم والأقلام والأحجار الكريمـة والغلايين وجلود الحيوانات والنراجيـل المصنوعـة من الكريستال القديم، وقناديل الكاز القديمـة، الى خشبيات تعـود الى 35 سنة من صنعـه، وطقـم فناجين قـهوة مطلي بماء الذهب عمره نحو مئة عام، ومجموعة فخاريات، وخوذة عربية وتوابعها، درع إسرائيلي وخوذته...

 
 تصميم وإرادة وإصرار

من الصعب إحصاء ما يختزنه متحف سليم عراجي الذي خصص حيزاً واسعاً لأجران الكبة والمحادلة التي كانت تستخدم في تسوية أسطح المنازل الترابية، والطيور المحنطة.

وهو يواصـل سعيه لزيادة المجموعات على اختـلافها، ويقول: "لقد نذرت حياتي في سبيل هذه الهوايـة التي أعشقها عشقي لتاريخ بلادي ومنطقتي. والأكيد أني سأتابع بقـية حياتي في المحافظـة على ما جمعـته وتعزيز النواقـص، هذا همـي الآن".

أما كيف استطـاع الوصول الى هذا الكمّ من المقتـنيات على الرغم من تواضـع امكانـاته المادية، فقال: "لقد ضحـيت بكل ما أملك من مال في سبيل ذلك، ووقتي ملك لهذه الهوايـة، ولن أبخل في المستقبل، فهذا ما سرت عليه منذ نعومة أظافري".

ويرفض عراجي أي كلام عن بيع ما يملك من قطع، فيقول:

"زارني المئات من الأجانب المهتمين، وفشلوا في إقناعي ببيعهم قطعاً أعجبتهم. لا بل أن بعضهم عرض عليّ مبالغ كبيرة ورفضت، كثيرون من النواب والوزراء، جرّبوا من دون جدوى. أنا "بخيل" بالنسبة للتخلي عن قطعي".

هذا الإصرار على الاحتفاظ بمقتنياته الأثرية تقابله رغبة في إقامة متحف عام يضمها في بلدته بر الياس. وهو يعتبر أن هذا المشروع حيوي للبلدة وكل المنطقة. ويقترح أن تهتم وزارة الثقافة بالتعاون مع الأندية والجمعيات في البلدة ومجلسها البلدي في إخراج مشروع إقامة متحف خاص لما كوّنه طوال عمره، يكون في متناول العامة، شرط ألا تباع أي قطعة لا بل أن يدعم من خلال رفده بكل ما يغنيه. ويؤكد عراجي: "لا أريد توريث أي شيء من متحفي لأولادي. ليس عندي أي سعي لتحقيق مكاسب مادية. بيتي مفتوح أمام الجميع من دون شرط أو قيد. وأنا على استعداد للتبرّع بقطعة أرض لتشييد المتحف عليها في حال تم تبني الفكرة".

متحف سليم عراجي في بر الياس يستحق الثناء والتقدير لأنه يعبّر عن حرصه على تاريخ بلدته ومنطقته وتراثهما، ويعطي مثالاً لما يجب أن يكون عليه التعامل مع آثارنا وتاريخنا.

تصوير:المجند قاسم الطفيلي