- En
- Fr
- عربي
افاق التكنولوجيا
قدراتها تحاكي قدرة الأجسام الحية
من منا لا يتمنى لو يشاهد زجاج سيارته المحطم، وهو يلتحم تلقائياً، هكذا وبسحر ساحر؟ من الذي لا يرغب بأن ترمم أغراضه اليومية نفسها بنفسها بعد أن تتعرض للكسر أو التلف، فتوفّر عليه الإزعاج والوقت والمال؟
فريق من المهندسين التقنيين، يعمل اليوم على تحقيق مثل هذه الأمنيات التي تسهّل علينا حياتنا اليومية الى حد بعيد. إذ يسعى هؤلاء، الى إنتاج نوعية من المواد العجيبة التي تتميز بخاصية الترميم الذاتي، وهي تعيد بالفعل تصليح ذاتها بذاتها في حال تعرّضت للكسر أو التلف.
مادة لاصقة بخاصية عجيبة
تنطلق اليوم من هنا وهناك، عمليات مذهلة تهدف الى تطوير مثل هذه المواد، نذكر منها الأبحاث التي تقوم بها البحرية الأميركية في مجال تحصين خزان الوقود في الطائرات المقاتلة لحمايته من تسرّب المحروقات في حال اصابته بنيران العدو. فما الذي يمكن قوله عن هذا النوع العجيب من المواد وكيف يعمل؟
المادة الركيزة إسمها سورلين (Surlyn). وهي نوع من البلاستيك الشفاف، جرى اختبارها في شهر آب الماضي، خلال الإجتماع الثامن والعشرين بعد المئتين، الذي عقدته الجمعية الأميركية للكيمياء في فيلادلفيا.
وعلى الرغم من مظهرها العادي جداً، تتميز هذه المادة بخاصية عجيبة. فالثنايا الناتجة عن ثقب، يُحدثه طلق ناري فيها، تلتحم آنياً، و... من تلقاء ذاتها! كان هذا الاكتشاف وليد الصدفة، كما يحصل عادة في مجال العلم، وهو اكتشاف تم التركيز عليه والاستفادة منه في الستينات، من قبل الصناعي الأميركي "Du Pont"، الذي اخترع النايلون. وكانت أهمية مادة السورلين تكمن آنذاك في قدرتها على مقاومة الصدمات والتآكل. لكن استخدامها كان يقتصر على صناعة طابات الغولف، للحفاظ على شكلها الكروي وإطالة عمرها، الى أن لاحظ باحثون في جامعة فرجينيا أثناء قيامهم باختبار على قوة تحمل هذه المادة، أنه يمكن لهذه الأخيرة أن تسد تلقائياً الثقب الذي تحدثه فيها، أحد العيارات النارية. كان ذلك في العام 2001. ومنذ ذلك الحين، يجهد الباحثون لتفسير هذه القدرة المذهلة، التي تتميز بها مادة السورلين، فتجعلها قابلة للإصلاح الذاتي. وقد أظهرت الدراسات المطوّلة جانباً من الحقيقة. فعند ملامستها للرصاصة، تذوب مادة السورلين في موضع التماس، فالثقب يتشكل بفعل الحرارة الناجمة عن الطاقة التي تخلّفها سرعة الطلق الناري. وتتمدد في هذه الحال، أطراف الثقب في المادة، كنتيجة لمداخلات إيونية، الأمر الذي يؤدي الى التحام الثقب آنياً، ومن تلقاء ذاته، أما السبب بانفراد مادة السورلين بهذه الميزة دون سواها من البلاستيك، فهو لا يزال محور بحث لفريق من المهندسين التقنيين، إذ ليس معروفاً بعد لماذا يتمكن هذا النوع من البلاستيك من ترميم ذاته. ويعتقد الباحثون الأميركيون أن مادة السورلين تستمد خصائصها الفريدة، من تركيبتها الخاصة. فهي تتألف من جزئيات البوليتيلين (Polyéthylène)، التي تؤلف أيضاً (على سبيل المثال لا الحصر) أكياس النايلون التي نجدها في السوبرماكت، وتتخلل جزئيات البوليتيلين هذه، جزئيات من حامض الميتاكريليك (Acide Méthacrylique) تلتصق بها إيونات. ويقول العلماء إن التجاذب بين هذه الإيونات قد يكون وراء قدرة السورلين على مقاومة التأثيرات الخارجية.
والهدف الأساس الذي يعمل له فريق الأبحاث هو التالي: إستحداث نوع من المواد، تملك بالإضافة الى القدرة على الترميم الذاتي، مواصفات لا توجد في مادة السورلين، التي لا يمكنها مثلاً أن تقاوم البنزين الذي يخترقها بسهولة.
ويقول علماء النازا في هذا المجال: يمكن أن تستخدم مادة السورلين ومشتقاتها، بالإضافة الى صناعة خزان الوقود في الطائرات الحربية، لحماية المركبات الفضائية وأيضاً لتأمين سطح فاصل ومحكم الإغلاق بين حجرات المركبة، يمنع أي اختلاط بين أجوائها المختلفة.
تقليد الأجسام الحية
لا يكتفي العلماء بمتابعة خصائص السورلين في مجال بحثهم عن مواد ذاتية الترميم. فهم يستوحون أفكارهم أيضاً من قدرة الأجسام الحية على الشفاء، بعد أن يلتئم جرحها تلقائياً. وهي قدرة تعتبر آلية بيولوجية قيّمة، ورثتها الأجسام الحية عبر خمسمئة مليون سنة من التطور. وتعتمد هذه الآلية، على تجمع عناصر بيولوجية مثل الأقراص الدموية (Plaquettes Sanguines) وتكتلها على مستوى الجرح، بهدف تشكيل، في مرحلة أولية، ما يسمى بالخثارة (دم متجمد). وفي حزيران الماضي، عُرضت، في برلين خلال المؤتمر الأوروبي لمواد التلبيس، مادة مركبة قادرة على الإلتحام الذاتي عند إصابتها بأصغر الشقوق. الجدير بالذكر أن الشقوق الميكروية التي يمكن أن تصيب كل أنواع المعادن، تشكل هاجس التقنيين في مجال الصيانة. فهذه الشقوق أو الفسوخ التي لا يزيد عرضها عن بعض الميكرومترات (جزء من المليون من المتر)، لا تُرى بالعين المجردة. وهي تنتج عن الحرارة المرتفعة أو الأوزان الثقيلة جداً، ويمكن أن تكون بداية لكسور خطيرة قد تؤدي فجأة الى كوارث حقيقية، مثلما حصل مع شركة الطيران الأميركية في شهر تشرين الثاني من عام 2001، في نيويورك. فقد انكسر ذيل الطائرة بعد ارتفاعها في الأجواء، على أثر إصابته بشق ميكروي لم يظهر خلال الصيانة. ويقول أحد المسؤولين في هذا المجال: لقد توصلنا الى إنتاج مادة تتألف من أنابيب رفيعة من الفولاذ، تقوم بعملية «التلحيم» بثوان قليلة، عبر تجميع جزئيات صغيرة جداً من رمل الصوان على مكان الشق. والواقع أن حقلاً كهربائياً، يولّده بشكل متواصل، محرّك يدخل في تركيبة المادة، هو الذي يتولى مهمة جذب هذه الحبوب الرملية الصغيرة نحو الشق في المعدن المراد ترميمه. ولا يزال هذا المشـروع في طور الاختبار، بغـية التأكد من متانة المعدن بعد إصلاحـه ذاتياً بهذه الطريقة.
طريقة أخرى للترميم الذاتي، إستوحاها الباحثون، أيضاً من الطبيعة الأم. وقد تم عرضها في برلين خلال شهر حزيران الماضي. وتقضي هذه الطريقة بإضافة كبسولات مكروية الى خلطة المعدن، تحتوي على لاصق سائل. وتضاف أيضاً الى تركيبة المعدن، إحدى المواد الكيميائية المنشطة، وعند قولبة الجسم (جناح طائرة مثلاً) من المعدن المذكور، يكون انتشار الكبسولات الميكروية، متعادلاً على مستوى كتلة الجناح بكامله. وبالتالي، فإن تعرّض هذا الأخير لأي شق ظاهر كان أو غير ظاهر، يؤدي حتماً الى تمزّق الكبسولات المجاورة للشق، فيتحرر محتواها من اللاصق السائل، ويتجمّد هذا الأخير، بمجرد تفاعله مع المادة المنشطة، فيملأ الفراغ في الشق.
تيار كهربائي يلحم الشقوق
في هذه التقنية، يجب أن تكون المادة الأساس التي يتكوّن منها الجسم المراد تصليحه، من النوع الناقل أو الموصل للكهرباء (مثل الحديد مثلاً). وتغلّف المادة، بقشرة التلحيم، وهي عبارة عن طبقة داخلية عازلة، مع طبقة من الحبيبات المكروية المشحونة موجباً، وطبقة أخرى خارجية من النحاس الموصل للكهرباء، توضع كلـها تحت ضغط خفيف. وهكذا تكون المادة الحديدية الأساسية، قطباً سالباً، بينما يشكل النحاس القطب الموجب. وعندما يصيب سطح الغرض، شق من الشقوق مهما يكن صغيراً، فهو يصيب أيضاً طبقته الداخلية العازلة. وللحين تنجذب الحبيبات المكروية الموجبة، باتجاه الشق (المشحون سلباً) وتملأ الفراغ فيه. ويأتي بعد ذلك، دور الإيونات النحاسية (الموجبة)، للانتقال أيضاً الى الشق، والعمل على تلحيم الحبيبات المكروية ببعضها، وهكذا يتم إصلاح الشق ذاتياً.
والجدير بالذكر أن طريقتي التلحيم الذاتي السابقتي الذكر، ليستا الإكتشاف الوحيد الذي توصل إليه المهندسون، فالنتائج التي يعمل من أجلها هؤلاء، تعدنا بمواد مستقبلية، ترمم ذاتها تلقائياً، سوف تكون الأساس في صناعة أشيائنا وأغراضنا اليومية. فهل تصبح هذه المواد جاهزة للتسويق بعد خمس سنوات، كما يعدنا الباحثون؟ يبقى أن ترويج هذه المواد المذهلة يتعلّق بكلفتها، وأيضاً بإرادة الصناعيين بتسويقـها. فلا يجب أن ننسى أن مثل هـذه المواد قد تشكّل خـطراً على قـطاع تصليح الأشياء وصيانتها. لكن العمل يبقى جاهداً، من أجـل تحقيـق المزيد من الحلـم، الذي طالمـا راود المهندسين، في بحثهم عن مواد أخف وزناً، وأكثر مقاومة لتأثير الصدمات وعوامل... الزمن.
Science et Vie
Nov. - 2004.