- En
- Fr
- عربي
ﻣﻨﻬﺠﻴﺔ اﻟﺘﺨﻄﻴﻂ اﻻﺳﺘﺮاﺗﻴﺠﻲ اﻟﻤﻄﻠﻮﺑﺔ ﻟﺤﻤﺎﻳﺔ اﻷﻣﻦ اﻟﻮﻃﻨﻲ اﻟﻠﺒﻨﺎﻧﻲ
المقدمة
على الرغم من أن السياسة تُعرّف بأنها فن الممكن، إلا أنها علم وأسلوب وطريقة ممارسة السلطة لغاية تحقيق الصالح العام بغض النظر عن الأداء السياسي والانقسام بين قوى السلطة والمعارضة. يجب أن يتبع هذا العلم قواعد ونُظم توجه عمله نحو تحقيق الأهداف الوطنية، ويُترجَم بعددٍ من السياسات العامة التي تضع المعالجات وتساعد في تيسير حياة المواطن وحل المشاكل التي يواجهها. هذه القواعد والنُظم تقوم بالتحديد على وضع الدراسات والبرامج والخطط العلمية التي تنطلق من تحليل الواقع الحالي، وتصور الواقع المستقبلي الذي يُؤمَل الوصول إليه. في هذا المجال، يتساءل اللبنانيون عن سبب فشل بعض السياسات والبرامج والخطط التي تضعها الوزارات والإدارات الحكومية باستمرارٍ، وهو ما أدى إلى وقوعهم في واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية، المالية والاجتماعية. وإذا كانت الأسباب والعوامل معروفة، كالفساد وسوء الإدارة، إلا أن تحليلًا معمقًا للواقع يُظهر عدم ترابط البرامج والسياسات والخطط الحكومية وتناغمها وتناسقها. فالسياسات العامة المتعلقة بمختلف الأوجه السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، العسكرية وغيرها ترتبط بالتخطيط الاستراتيجي الشامل طويل المدى، والذي يتبع منهجية منظمة ومتماسكة تبدأ بوضع أعلى هرم السلطة السياسية لاستراتيجية الأمن الوطني بهدف حماية الأمن الوطني، ليس بالوسائل العسكرية والأمنية فقط، بل بمختلف وسائل القوة. تبرز الدولة من خلال استراتيجية الأمن الوطني توجهاتها الاستراتيجية وأهدافها المستقبلية، وتحدد مصالحها الوطنية، وترسم الطرق وتخصص الوسائل الكفيلة بتحقيقها، ثم تقوم بعد الانتهاء من وضعها ببثّها في جسمها الحكومي والإداري ليتمكن كل جزء منها من صياغة الخطط والبرامج التي تتوافق مع المصالح الوطنية. إذًا، هو تخطيط منهجي يهدف إلى وضع مسار السياسات العامة على السكة الصحيحة، وبالتالي حماية الأمن الوطني.
فما هي منهجية التخطيط الاستراتيجي، وهل تطبق هذه المنهجية في لبنان لحماية أمنه الوطني؟
سنحاول الإجابة عن هذه الإشكالية من خلال الإجابة عن عدة أسئلة متفرقة: ما هو مفهوم الأمن الوطني، وهل هو مقتصر على الأبعاد العسكرية والأمنية؟ ما هو مفهوم المصلحة الوطنية، وما علاقتها بالأمن الوطني؟ ما هو مفهوم القوة، وما هي وسائل القوة الوطنية وأدواتها، وهل لبنان يمتلكها لتحقيق مصالحه الوطنية؟ وكيف يتم التخطيط الاستراتيجي، وما علاقة الاستراتيجية باستعمال القوة وتحقيق المصالح الوطنية؟
القسم الأول
مفهوم الأمن الوطني
1 - تعريف الأمن الوطني
لقد أعطيت الكثير من التعاريف المتعلقة بالأمن الوطني، يمكن ذكر أهمها: «الأمن الوطني هو القدرة على الحفاظ على السلامة المادية للدولة وأراضيها، والحفاظ على علاقاتها الاقتصادية مع بقية العالم بشروطٍ معقولة، والحفاظ على طبيعتها ومؤسساتها وحوكمتها من التعطيل من الخارج، والسيطرة على حدودها»1؛ و«الأمن الوطني يعني الحفاظ على أعراف وقواعد ومبادئ وقيم المجتمع والشعب، والهياكل والمؤسسات المرتبطة بهما، وحمايتهما من التهديدات العسكرية وغير العسكرية»2؛ إضافة إلى أن «المعنى المميز للأمن الوطني هو في تحرره من الإملاءات الخارجية الأجنبية»3.
وإذا أردنا تبسيط الموضوع، يمكن القول إن عبارة الأمن الوطني تعني قدرة الحكومة الوطنية على الدفاع عن سيادة الدولة وحدودها ومواطنيها واقتصادها ومؤسساتها. في حين يبدو المفهوم موجهًا حصرًا نحو الحماية ضد الهجمات العسكرية المعادية، فإن نظرة أعمق وأشمل تدلنا على تضمّن المفهوم أبعادًا غير عسكرية، وعدم اقتصاره على توفير الحماية والأمن للدولة من هجمات الدول الأخرى، بل شموله الإجراءات التي تتخذها ضد الجهات غير الحكومية أيضًا، ومكافحة الإرهاب والتهريب والجريمة المنظمة، ومواجهة الشركات متعددة الجنسيات، بالإضافة إلى معالجة آثار الكوارث الطبيعية.
من هنا، يتضح لنا ضرورة استيفاء لبنان لبعض الشروط الأساسية المتعلقة بمفهوم الأمن الوطني، بسبب محدودية قدراته الأمنية والعسكرية، وتأثّره بالتطورات والأحداث الإقليمية والدولية والتدخلات في شؤونه. وإذا كان لبنان يسجل بعض الإنجازات في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، إلا أنّ هناك بعض الصعوبات الناتجة عن القدرات المحدودة في مجال وقف التهريب برًا وبحرًا، على الرغم من الجهود الكبيرة الذي يبذلها الجيش، إلى جانب اعتداءات العدو الإسرائيلي وخروقاته المتكررة.
2-أنواع الأمن
انطلاقًا من هذه التعريفات، يمكن إيجاز عدة أنواع من الأمن منها:
- الأمن السياسي، ويشير إلى حماية سلامة النظام السياسي والمجتمع وسيادتهما من التهديدات الداخلية غير المشروعة والتهديدات أو الضغوط الخارجية، وهي تنطوي بشكلٍ أساسي على تحقيق الأمن الوطني وإنفاذ القانون، واتخاذ تدابير ضد القمع السياسي وانتهاكات حقوق الإنسان.
- الأمن الاقتصادي، الذي لا يقتصر على توفير احتياجات الناس وخلق فرص عمل واتخاذ إجراءات لمكافحة الفقر وتحقيق المساواة في الدخل فحسب، بل يشمل مدى حرية الدولة في التحكم في قراراتها الاقتصادية والمالية أيضًا، وامتلاك القدرة على حماية ثرواتها والدفاع عن حريتها الاقتصادية في مواجهة التهديدات والإكراه الخارجي، والحفاظ على استقلالية القرار الوطني في الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالتجارة والتمويل.
- الأمن الاجتماعي، الذي يشمل سلامة الناس من الجوع والمرض والقمع والعنف والجريمة والإرهاب، واتخاذ تدابير ضد التوترات بين الأعراق والطوائف والأجناس المختلفة، والحفاظ على الحقوق.
- أمن الطاقة والموارد الطبيعية، الذي يعني قدرة الدولة على الوصول بحريةٍ إلى موارد الطاقة مثل النفط والغاز والمياه والمعادن، من دون تدخّل من دول أخرى أو كيانات سياسية أو عسكرية لأغراضٍ سياسية أو غير تجارية.
- الأمن الغذائي، ويعني اتخاذ تدابير لمكافحة الجوع والمجاعة وتأمين الاكتفاء الغذائي الوطني.
- الأمن البيئي، ويعني مواجهة مشاكل تغيّر المناخ والاحتباس الحراري، واتخاذ تدابير لمكافحة التدهور البيئي واستنزاف الموارد وتضخم الكوارث الطبيعية وارتفاع نسب التلوث.
- الأمن الصحي، ويعني اتخاذ تدابير لمكافحة الأمراض والأغذية غير الآمنة وسوء التغذية وعدم الحصول على الرعاية الصحية الأساسية.
- الأمن الداخلي، ويعني فرض سيادة القانون والحفاظ على السلم الأهلي، وحماية أمن المرافق والمنشآت العامة والخاصة والمطارات والموانئ، وغيرها.
- الأمن السيبراني، الذي يشير إلى حماية أجهزة الكمبيوتر والبنية التحتية التي تعالج البيانات وأنظمة التشغيل الحكومية من التدخلات الضارة، سواء من خارج الدولة أو من داخلها4.
- الأمن العسكري، الذي يعني اتخاذ التدابير العسكرية والأمنية الضرورية لحماية حدود وسيادة الدولة من الاعتداءات العسكرية الخارجية.
لا يمكن إنكار الواقع الذي يمرّ به لبنان على مختلف الأصعدة، فقد أدت الاصطفافات والانقسامات الحادة بين مختلف الأفرقاء إلى تعطيل الحياة السياسية عند كل محطة وطنية أساسية، والتأثير في قدرة الأجهزة الأمنية والعسكرية على إنفاذ القانون على كامل الأراضي اللبنانية. وإذا كانت القدرات العسكرية والأمنية اللبنانية استطاعت مكافحة الإرهاب في الداخل، وتوفير حد أدنى من شروط الأمن السيبراني وحماية السلم الأهلي، إلا أن عوامل وأسباب عديدة تحول حتى الآن دون تمكينها وتقويتها بهدف حماية الحدود ضد الاعتداءات الإسرائيلية. تراجعت قدرة الدولة على توفير الاحتياجات الأساسية للمواطن، كالكهرباء والمياه والصحة والتعليم، وازداد الفقر، وتصاعدت معدلات البطالة والهجرة، وفقد المواطنون مدخراتهم وودائعهم المالية في المصارف، إلى جانب عدم استكمال عمليات الحفر والتنقيب عن النفط والغاز واستخراجهما حتى الآن. على صعيد آخر، هناك مشكلة في تأمين الاكتفاء الغذائي الذاتي على الرغم من وفرة الأراضي الزراعية، في ظل عدم الاهتمام بالقطاع الزراعي، والاستيراد من الخارج.
من ناحية أخرى، ارتفعت مستويات التلوث بشكلٍ كبير، وتكدست النفايات في الشوارع، واستمر رمي النفايات والأوساخ في الأنهار والبحيرات وعلى الشواطئ ومياه البحر، من دون القيام بخطوات مهمة بهدف المعالجة واتخاذ التدابير الحازمة بحق المخالفين.
3-مفهوم المجمع الأمني Security Complex
إذا كان الأمن الوطني يعني قدرة الدولة على توفير الحماية والدفاع عن مواطنيها، إلا أنه لا يعني قدرتها على حل كل المشاكل التي تعترضها بقواها الذاتية. فالمشاكل التي فرضتها الطبيعة والعديد من الأنشطة الأخرى على الصعيد العالمي، وبخاصةٍ العولمة، أبرزت عدم قدرة أي جهاز أمني وطني على التعامل معها بمفرده، ما فرض تعاونًا وتنسيقًا وترابطًا واعتمادًا متبادلًا بين مختلف الدول، وأدى إلى تطور مفهوم الأمن العالمي. وعلى الرغم من وجود حدود أو مسافة فاصلة بين الأمن الوطني والأمن العالمي من الناحية النظرية، إلا أنها ليست كافية للحفاظ على ترسيم واضح بينهما، بل يمكن تأكيد علاقة تكافلية بينهما، لأنه في الكثير من الأحيان تعترض دولة ما مشاكل أمنية داخلية لا تستطيع التعامل معها بشكلٍ أحادي من دون مساعدة، أو يمكن أن يواجه المجتمع الدولي قضايا أمنية دولية بحاجةٍ إلى قدرات جهاز أمني محلي لمواجهتها، وهذا ما يعني ضرورة إحداث آليات لتعاون أجهزة الأمن الوطني وتآزرها مع تلك المعدّة لحماية الأمن العالمي.
في هذا المجال، يمكن التكلم عن مفهوم المجمع الأمني Security Complex، وهو الوضع الذي تكون فيه المخاوف الأمنية للدول مترابطة بشكلٍ عميق إلى درجة أنه لا يمكن النظر في الاحتياجات الأمنية لدولةٍ واحدة بشكلٍ واقعي، من دون الأخذ في الاعتبار مراعاة الاحتياجات الأمنية للدول الأخرى، إضافة إلى أنه من مصلحة جميع الدول عدم السماح بتصاعد التحديات والمخاطر التي تهدد الأمن الوطني لدولةٍ واحدة لكي تصبح مشكلة عالمية5.
هنا، يمكن ذكر الكثير من الأمثلة التي تتطلب تعاونًا دوليًا للمحافظة على الأمن والسلام، أهمها:
- قضايا البيئة وتغيّر المناخ والتعامل مع آثار النشاطات المناخية المتطرفة.
- قضايا نزع السلاح وعدم انتشار أسلحة الدمار الشامل.
- قضايا مكافحة البطالة وتوفير العمالة والغذاء وتأمين الرعاية الصحية المتعلقة بانتشار الأمراض المعدية.
- مكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود والإرهاب.
- مواجهة تحديات تدفّق اللاجئين ومشاكلهم التي تتجاوز الحدود الجغرافية القومية، وغيرها من الأمثلة التي تعرّض الأمن العالمي للخطر إذ يقتضي تضافر قوى دولية وجهود مشتركة لمواجهتها.
أخيرًا في هذا السياق، لاحظ لويس بيريس أن قادة العالم يواصلون التصرف كما لو أن أمن دولهم يعتمد على القوة الوطنية فقط، وهو يدعوهم إلى تبنّي روح جديدة من الوحدة، وتبنّي المسار الجماعي الذي يرى رفاهية وأمن كل منها من منظار ما هو أفضل للجميع، وبالتالي للأمن العالمي والنظام6.
يتعاون لبنان مع المجتمع الدولي في العديد من القضايا المترابطة والمشتركة. على سبيل المثال، تتعاون الأجهزة الأمنية، العسكرية والمالية مع الأجهزة التابعة لدولٍ إقليمية أو دولية في مكافحة الإرهاب، وملاحقة الإرهابيين وتجفيف مصادر تمويلهم، وهو سبق وتعاون مع منظمة الصحة العالمية لمواجهة تداعيات وآثار فيروس كورونا. وعندما اتضح أن مشكلة النزوح السوري بدأت تشكل خطرًا وجوديًا، إذ بدأت تتكشف تداعياتها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية يومًا بعد يوم، وتزداد وطأتها على مختلف الشرائح اللبنانية، اتفق أغلب فئات المجتمع اللبناني على أن هذه المشكلة أصبحت تشكّل تهديدًا على الأمن الوطني اللبناني، وتقتضي المصلحة الوطنية البحث عن آليات لمعالجتها. إن تعامل المجتمع الدولي مع قضية النازحين السوريين من دون أي اعتبار للمصلحة الوطنية اللبنانية، يطرح تساؤلات عن جدية المجمع الأمني ومصداقيته، وقدرة الدولة اللبنانية على مواجهة ضغوطات الخارج حماية لأمنها الوطني ضمنه. لذلك، لا يعني الانتماء إلى المجمع الأمني التأثير في السيادة اللبنانية، بل تعزيزًا لها، مقابل قيام الشروط الموضوعية التي تسمح للدولة بتحديدٍ دقيق لمصالحها الوطنية، وامتلاكها وسائل القوة الكافية لتحقيقها.
تُعنى الدولة بحماية أمنها لتحقيق مصلحة ما. فالأخيرة ليست خاصة بل عامة، ولا ترتبط بشخصٍ أو فريق سياسي بل تخص المجتمع كله، إذًا، إن غاية الأمن الوطني هي تحقيق مصلحة وطنية.
القسم الثاني
مفهوم المصلحة الوطنية
1-تعريف المصلحة الوطنية
يرتبط مفهوم المصلحة الوطنية بما صاغه الديبلوماسي الإيطالي جيوفاني ديللا كاسا في العام 1547، وهو معروف بالإيطالية بـ Ragion di Stato وبالفرنسية بـ raison d’état، والذي تبنّاه المفكر السياسي الإيطالي أنطونيو ميكيافيلي، ثم أخذ شهرته عبر نشره لاحقًا على نطاق واسع على يد المفكر السياسي الإيطالي جيوفاني بوتيرو أواخر القرن السادس عشر7. إلا أن مفهوم المصلحة الوطنية هو مصطلح غامض ومبهم، إذ يمكن تفسيره حسب السياق الذي يُستخدم فيه، ويتخذه صانعو السياسات دائمًا ليتناسب مع هدفهم المتمثل في تبرير تصرفات دولهم. مثلًا، برر هتلر سياساته التوسعية باسم المصالح الوطنية الألمانية، وبررت الولايات المتحدة تدخّلاتها في أفغانستان والعراق وغيرها من الأماكن باسم المصلحة الوطنية الأميركية، وبررت روسيا عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا باسم المصالح الوطنية الروسية، وتبرر الصين نزاعها مع تايوان باسم المصالح الوطنية الصينية، والآن تتحدث الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن عن عدم انتشار أسلحة الدمار الشامل من منطلق مصالحها الوطنية. أما باحثو المدرسة المؤسساتية الليبرالية liberal institutionalist ومدرسة الواقعية الجديدة Neorealist يميلون إلى اعتبار المصلحة الوطنية تدور حول الأمن والسلطة8. وينظر الباحثون الليبراليون liberals إلى المصالح الوطنية باعتبارها مزيجًا لأهداف الجماعات السياسية المحلية وغاياتها9. بينما يرفض الباحثون البناؤون Constructivists ثبات المصلحة الوطنية، ويجادلون بأن غايات الدول وأهدافها تتشكل من خلال التفاعلات الاجتماعية القابلة للتغير10.
يمكن الاستشهاد بهذه الأمثلة وغيرها الكثير، لتأكيد الغموض الذي يحيط بهذا المفهوم، ما يعيق عملية تعريفه بشكلٍ مقبول عالميًا. ومع ذلك، عرّف العديد من العلماء المصلحة الوطنية، إلا أن الباحث سيكتفي بتعريفَين: الأول وضعه هانز مورغنتاو: «إن معنى المصلحة الوطنية هو البقاء، وحماية الهوية المادية، السياسية والثقافية ضد اعتداءات الدول القومية الأخرى»11، والثاني وضعه جوردون دي بروير: «تتكون المصلحة الوطنية من ثلاثة مكونات تكمّل بعضها، الأمن، الازدهار والرفاهية الاجتماعية. فالأمن يدعم الازدهار الذي يخلق بدوره القوة ويدفع الثمن المادي لتحقيق الأمن الاجتماعي، والمجتمع الذي يعمل بشكلٍ جيد يقلل من المخاطر الاقتصادية والأمنية12. انطلاقًا من هذَين التعريفَين يمكن القول إن المصلحة الوطنية هي ما تهدف وتطمح الدولة ذات السيادة لتحقيقه، سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا وغيرها. وفي مجال العلاقات الدولية، إن المصلحة الوطنية هي مفهوم أساسي تصيغ الدولة عبره سياساتها الخارجية بهدف تحقيقه أو تأمينه، ومن خلاله تبرر أفعالها وتصرفاتها في سعيها وراء السلطة والأمن والثروة.
إذًا، هي المصالح والأهداف والغايات التي تحاول الدولة دائمًا الحفاظ عليها وحمايتها والدفاع عنها وتأمينها في علاقاتها مع الدول الأخرى. عادة، يستحضر مصطلح المصلحة الوطنية في السياسة الخارجية لتصوير الدولة التي تدافع عن مصالحها داخل النظام الدولي إذ تكثر المخاطر التي تعرّضها للخطر الدائم. أما مع كتاب الواقعية السياسية، فيُستخدم تعبير المصلحة الوطنية للإشارة إلى ما هو الأفضل للأمة في علاقاتها مع الدول الأخرى. هكذا، لا يؤكد هذا الاستخدام للمصطلح التهديد الذي تتعرّض له الأمة من الفوضى الدولية فحسب، بل يؤكد القيود الخارجية المفروضة على حرية مناورة الدولة من خلال المعاهدات، ومصالح الدول الأخرى وقوتها، وعوامل أخرى خارجة عن سيطرة الدولة أيضًا. من هنا، يركز الاستخدام التحليلي لمصطلح المصلحة الوطنية على دور الدولة باعتبارها تجسيدًا لمصلحة الأمة، وهو يساعد في فحص سلوكها في العلاقات الدولية. لذلك ركزت الواقعية السياسية على تقييم آثار السياسة الخارجية على الأمن الوطني باعتباره جوهر المصالح الوطنية، ما يعني أن مصطلحَي الأمن الوطني والمصلحة الوطنية مترابطان بشكلٍ وثيق13.
2-تصنيف المصالح الوطنية
عند وصف المصالح الوطنية التي تسعى الدول إلى تأمينها، يتم عمومًا تصنيفها إلى نوعَين:
- المصالح الضرورية الحيوية، وهي الهوية التي تنقسم إلى ثلاثة أجزاء: الهوية الجسدية- المادية التي تشمل الأرض والحدود، الهوية السياسية التي تعني النظام السياسي والاقتصادي، والهوية الثقافية التي تمثل القيم التاريخية التي تدعمها الأمة كجزءٍ من تراثها الثقافي. هذه المكونات هي حيوية لأنها ضرورية لبقاء الأمة، إذ تقرر الأخيرة خوض الحرب من أجل تأمينها أو حمايتها.
- المصالح المتغيرة أو غير الحيوية، وهي تلك التي تحددها الظروف أو ضرورة تأمين المكونات الحيوية، ويتم تحديدها من خلال صناع القرار، الرأي العام، الأحزاب، الطوائف، جماعات المجتمع المدني، أو المجموعات والمكونات الشعبية والثقافية وغيرها. إن هذه المصالح المتغيرة هي رغبات وتمنيات تودّ الدولة بلا شك أن تحققها، ولكنها لن تستميت لخوض الحرب من أجلها، مثل الرخاء الاقتصادي وتحقيق السلام والعدالة ونشر الديموقراطية وغيرها.
يمكن تصنيف نوعَي المصالح الوطنية، أكانت ضرورية حيوية أم متغيرة غير حيوية، إلى أربعة فروع:
الفرع الأول يتعلق بـأهميتها، ونجد: المصالح الأساسية التي لا يمكن لأي دولة أن تتنازل عنها إذ تدافع عنها بأي ثمن، والمصالح الثانوية التي تقل أهمية عن المصالح الأساسية إلا أنها تظل مهمة للدولة.
الفرع الثاني يتعلق بـمدتها، فنستنتج: المصالح الدائمة الثابتة نسبيًا على المدى الطويل، والتي يمكن أن تخضع لتغييراتٍ بطيئة للغاية، والمصالح المتغيرة التي تتغير وفق الظروف والمعطيات التي تتكون من خلال التيارات المتقاطعة للشخصيات والرأي العام والمصالح الطائفية والسياسات الحزبية والشعبية والثقافية.
الفرع الثالث يتعلق بـمداها، إذ نجد: المصالح العامة التي تنطبق على عدد كبير من الدول، والمصالح المحددة من حيث الزمان والمكان.
الفرع الرابع يتعلق بـاندماجها، ونرى: المصالح المتطابقة، أي المصالح المشتركة بين عدد كبير من الدول. المصالح المتكاملة، أي التي تشكل أساس الاتفاق على بعض القضايا المحددة على الرغم من أنها ليست متطابقة. المصالح المتضاربة، أي المتعارضة وليست متكاملة ولا متطابقة14.
من حق الدولة وواجبها تأمين مصالحها الوطنية، ولها حرية اختيار الوسائل اللازمة لتحقيق هذا الغرض، سواء أكانت سلمية أو قسرية. ومع ذلك، ومن أجل تحقيق السلام والأمن والازدهار على المستوى الدولي، يُتوقع من الدول الامتناع عن استخدام الوسائل القسرية لشن الحروب، والاستعانة بالوسائل السلمية لتسوية النزاعات وتأمين المصالح الوطنية. فالتعايش السلمي، والحل السلمي للصراعات، والتعاون المتبادل الهادف من أجل التنمية هي المصالح المشتركة لجميع الدول. وعلى هذا النحو، إلى جانب تعزيز مصالحها الوطنية، يجب على الدول أن تحاول حماية المصالح المشتركة وتعزيزها من أجل المصلحة الأكبر للمجتمع الدولي بأسره. لذلك، في أثناء صياغة الدولة لأهدافها وغاياتها ومصالحها الوطنية، عليها أن تتأكد كونها متوافقة مع المصالح الدولية للسلام والأمن، حماية البيئة، حماية حقوق الإنسان والتنمية المستدامة. هذا يجعل من الضروري لكل دولة أن تصوغ سياستها الخارجية وتدير علاقاتها مع الدول الأخرى على أساس مصالحها الوطنية بما ينسجم مع المصالح المشتركة للعالم أجمع.
ما هي المصالح الوطنية اللبنانية؟ هل يمكن تحديد هذه المصالح التي تبرر تصرفات السياسة الرسمية اللبنانية، داخليًا وخارجيًا؟ كل لبناني يفهم المصلحة الوطنية من المقاربة التي تناسب أهداف فريقه السياسي وتطلعاته، والتي تُغَيّب المقاربة الوطنية الرسمية الشاملة التي تحقق الأمن الوطني، وتساهم في الازدهار الاقتصادي، وتقوّي التماسك الاجتماعي، وتحافظ على الهوية الوطنية الجامعة المستندة إلى القيم والعادات والتقاليد الوطنية اللبنانية. وإذا كنا قد تكلمنا عن تعارض ثم تقارب وجهات نظر اللبنانيين حول ملف النزوح السوري كمثالٍ عن كيفية مقاربة اللبنانيين للمصالح الوطنية، إلا أن هذا دليل على الاختلافات في مصالح اللبنانيين الوطنية ورؤيتهم. يرى بعض اللبنانيين أن المصلحة الوطنية هي في اتخاذ الحياد كموقفٍ في السياسة الخارجية، بينما يعارض آخرون انطلاقًا من عدم استطاعة اللبناني غض النظر عن استضعاف الشعوب والعدوان عليها وسلبها حقها في تقرير مصيرها. على صعيد آخر، يرى البعض الآخر أن المصلحة الوطنية هي في التقارب مع الغرب والدول العربية، خصوصًا الولايات المتحدة وأوروبا ودول الخليج، على اعتبار أن النظام اللبناني ديموقراطي برلماني يعتمد على الرأسمالية الليبرالية التي تكفل المبادرة الفردية، وتشجع أصحاب رؤوس الأموال على الاستثمار، بينما يرى آخرون أن هذا النظام أضر بلبنان، والمصلحة الوطنية تقتضي الانفتاح على الشرق، خصوصًا على روسيا والصين وإيران. الأمثلة كثيرة عن تضارب المصالح الوطنية بين اللبنانيين، إلا أن ما يهمنا هنا في سياق منهجية التخطيط الاستراتيجي أنه لا يمكن تحقيق المصالح الوطنية مهما تكن، وبالتالي حماية الأمن الوطني اللبناني، من دون وسائل وأدوات. فما هي وسائل القوة الوطنية وأدواتها، وهل تملكها الدولة اللبنانية؟
القسم الثالث
القوة الوطنية
1-تعريف مفهوم القوة
القوة هي قدرة الدولة على فعل شيء ما، وفرض سلطتها وهيمنتها، والحصول على تأثير كبير في المجال الاقتصادي، السياسي، الاجتماعي أو أي مجال أساسي آخر. إذًا، يكمن هدف السياسة الخارجية في تأمين الأهداف المحددة للمصلحة الوطنية من خلال استخدام القوة الوطنية، ما يعني أن تحقيق المصالح الوطنية يرتبط بالقوة. في هذا السياق، ترى المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية أن الهدف الوحيد للدولة هو القوة أو القدرة على التأثير، ويرى هانز مورجنتاو أن أهداف الدولة تتحدد في ثلاثة: إما زيادة القوة، أو الاحتفاظ بالقوة، أو تحقيق الهيبة والنفوذ15. وغالبًا ما ينظر بعض الكتاب والمفكرين والمحللين إلى مفهوم القوة على أنه تعبير عن قدرة الدولة على استخدام قوتها العسكرية لفعل شيء ما. إلا أن هذا النهج ليس علميًا ولا موضوعيًا، لأنه يمكن ممارسة القوة من خلال وسائل غير عسكرية، مثل القوة الاقتصادية، ويمكن استخدامها من قبل جهات فاعلة من غير الدول، مثل الشركات العابرة للحدود. ففي العلاقات الدولية، يشير مفهوم القوة غالبًا إلى الدول، إلا أنه لا يمكن لأحد أن ينكر القوة التي تمتلكها المؤسسات المالية، والشركات غير التابعة للدولة، والمنظمات غير الحكومية الكبرى، والمنظمات الإرهابية والإجرامية، وغيرها16. بعبارةٍ أخرى، القوة هي ما يميز قدرة أي جهة فاعلة في النظام الدولي على التصرف حيال الجهات الفاعلة الأخرى، ومع النظام نفسه، للدفاع عن مصالحها، أو تحقيق أهدافها، أو الحفاظ على تفوقها وهيمنتها أو حتى تعزيزها17.
وللدلالة على الأبعاد المختلفة للقوة، اعتمد حلف الناتو مفهوم أدوات القوة الوطنية Instruments of National Power DIMEFIL ليشير إلى قدرة الدولة على تحقيق أهدافها ومصالحها الوطنية عبر سبع أدوات رئيسة هي: القوة الدبلوماسية، القوة الإعلامية، القوة العسكرية، القوة الاقتصادية، القوة المالية، القوة الاستعلامية أو المخابراتية وقوة تطبيق القانون18. وتُترجم القوة في العلاقات الدولية إلى أفعال تعطي قيمة للدولة، وترفع مكانتها بين نظيراتها، وتجعلها مرهوبة ومحسوبة. وهذه الأفعال هي:
- القدرة على الفعل، وتعني قدرة الدولة على التصرف من دون أن يتمكن الحلفاء أو الخصوم من إبطائها أو إيقافها أو منعها19.
- القدرة على التسبب في الفعل، وتعني قدرة الدولة على إجبار الحلفاء أو الخصوم أو إقناعهم أو دفعهم للقيام بشيءٍ ما بعدة وسائل لتوفير الشرعية لهذا الفعل20.
- القدرة على المنع من الفعل، وهي قدرة الدولة على منع الحلفاء أو الخصوم أو إقناعهم أو حثهم على عدم القيام بعملٍ معين، وذلك بسبب تفوّق الدولة أو توازن القوى مع دولة أخرى21.
- القدرة على رفض الفعل، أي قدرة الدولة على رفض القيام بعملٍ ما يفرضه عليها حلفاؤها أو أعداؤها22.
2-أبعاد القوة
يـأخذ مفهوم القوة أبعادًا مختلفة:
أ-هو مفهوم متعدد الأوجه، من حيث تصنيف القوة وتوزيعها حسب المناطق ومصطلحاتها، إذ تتغير هذه التصنيفات بتغيّر الظروف والمعطيات، ويرجع ذلك بشكلٍ أساسي إلى تقدّم بعض الدول وتراجع دول أخرى في النظام العالمي، وبخاصةٍ على مستوى القدرات. لذلك نرى الدول العظمى، الدول الكبرى، الدول المتوسطة، الدول المتراجعة، الدول القديمة، الدول الناشئة، وما إلى ذلك؛ كما نرى الدول القوية إقليميًا، والدول القوية دوليًا؛ إضافة إلى أنه تتغير تسميات النظام العالمي حسب التحول في مراكز القوة العالمية للدول، مثل النظام العالمي متعدد الأقطاب أو ثنائي القطب أو أحادي القطب. بشكلٍ عام، يمكن التمييز بين ثلاثة أنواع من القوة:
- القوة الصلبة، وهي التي تتمثل بقدرة الدولة أو الهيئة السياسية على استخدام الحوافز الاقتصادية أو القوة العسكرية للتأثير في سلوكيات الجهات الفاعلة الأخرى، وهو ما يعني الاستفادة من الموارد الوطنية كافة لاستخدام القوة بهدف فرض الهيمنة والإكراه على الدول الأخرى. يقوم مفهوم القوة الصلبة على مقياس القوة الذي تقترحه المدرسة الواقعية في نظرية العلاقات الدولية، إذ يؤكد هانز مورجنثاو استخدام القوة القسرية في السياسة الدولية لرفع قيمة القوة السياسية وفعاليتها، وتعد القوة المسلحة العامل المادي الأكثر أهمية للقوة السياسية للأمة23. أما جوزيف ناي فيعرّف القوة الصلبة بأنها استخدام الدولة لمفهوم العصا والجزرة المتمثل بالقوتَين الاقتصادية والعسكرية بهدف التأثير في الآخرين ليتبعوا إرادتها24. هذا يعني أن الدولة يمكنها استخدام قدراتها العسكرية أو التهديد باستخدامها، أو تسهيل المعاملات الاقتصادية، أو التهديد بإيقافها أو منعها في سبيل تحقيق أهدافها. وبطبيعة الحال، فإن السؤال لا يتوقف على قدرة الدولة على فرض إرادتها على الآخرين، بل يجب أن يشمل قدرتها على الدفاع عن نفسها ضد تطلعات الآخرين أيضًا، اعتمادًا على القوة العسكرية والاقتصادية25.
- القوة الناعمة، وهي التي تتمثل في الاستعاضة عن استخدام القوة أو التهديد باستخدام القوة باستثمار النفوذَين الثقافي والاقتصادي اللذين تتمتع بهما دولة ما لإقناع الدول الأخرى القيام بشيءٍ ما. لقد حدد جوزيف ناي، الذي أنشأ هذا المفهوم، في البداية ثلاث ركائز رئيسة للقوة الناعمة هي: القيم السياسية، الثقافة والسياسة الخارجية26. وعلى عكس الطبيعة القسرية للقوة الصلبة، تستخدم القوة الناعمة تقنيات الجذب الإيجابي والإقناع لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، وهي تتجنب أدوات السياسة الخارجية التقليدية المتمثلة في سياسة العصا والجزرة، وتسعى بدلًا من ذلك إلى ممارسة النفوذ من خلال بناء الشبكات، واعتماد سردية وحجج مقنعة، وتبّني قيم وقواعد محددة للتعامل الدولي، والاعتماد على الموارد الثقافية، العلمية والسياحية التي تجعل أي بلد جذابًا للعالم بشكلٍ طبيعي. لقد أصبحت القوة الناعمة اليوم وسيلة من وسائل قوة الدولة، إذ يتم استخدامها لتعزيز القيم الوطنية ونشرها من خلال اللغة، المسرح، التلفزيون، الإذاعة، المهرجانات، الأفلام وغيرها من النشاطات الثقافية، ونشر القيم السياسية الوطنية مثل الديموقراطية، حق الشعب في تقرير المصير، حقوق الإنسان، الحريات العامة والخاصة، احترام القانون الدولي وغيره، استخدام السياسة الخارجية لتحقيق الأهداف الوطنية من خلال التواصل مع الدول الأخرى وتطوير العلاقات معها ومحاولة إبراز الصورة المشرّفة للبلاد على المنابر العالمية.
- القوة الذكية، وهي التي تشير في العلاقات الدولية إلى نهج يستعمل مزيجًا من استراتيجيات القوة الصلبة والقوة الناعمة، إذ يؤكد الحاجة إلى جيش قوي من جهة، ويستثمر بكثافةٍ في التحالفات والشراكات والمؤسسات على جميع المستويات من جهة أخرى، لتوسيع النفوذ وإضفاء الشرعية على العمل27. يشير جوزيف ناي إلى أن استراتيجيات السياسة الخارجية الأكثر فعالية اليوم تتطلب مزيجًا من موارد الطاقة الملموسة وغير الملموسة، أي إن استخدام الطاقة الصلبة أو الطاقة الناعمة فقط في موقف معين لن يكون كافيًا بشكلٍ عام28. ببساطةٍ، فإن القوة الذكية تتضمن الاستخدام الاستراتيجي للدبلوماسية، الإقناع، بناء القدرات، إظهار القوة والنفوذ ونشرها بطرقٍ فعالة من حيث التكلفة، والتمتع بشرعيةٍ سياسية واجتماعية29.
ب-القوة مفهوم متطور، متحرك وليس جامدًا، إذ لا يتبع نمطًا ثابتًا في التعبير عن القدرات، بل يرتبط بالتطور التقني والتكنولوجي الذي يميز كل عصر من العصور التاريخية. فبسبب الأشكال المتعددة التي يمكن أن تظهر بها القوة، فإن هناك عوامل أخرى تجعلها أكثر تعقيدًا مما تبدو في الواقع:
- تتغير عوامل القوة باستمرارٍ، إذ إن العوامل التي حددت القوة في الماضي لا ينبغي أن تظل كذلك في عالمنا اليوم. فعلى سبيل المثال، اتسمت القوة في الماضي بالأعداد البشرية، براعة القادة في العمليات والمناورات العسكرية، تجاوز الطوق وضرب الخصوم للقضاء عليهم وتدميرهم، المهارات الفردية في استخدام السيف والدرع والرمح، والجهود التي يبذلها المقاتلون في المواجهات المباشرة والقريبة والتي تشتمل على الفروسية والشجاعة والإقدام. أما اليوم، فالقوة هي ذكية، تتميز بمزيجٍ من القوة الصلبة والناعمة، وبتقنيات المعلومات والاتصالات ونظام القيادة والسيطرة وقدرات تدمير مختلف أنواع الأسلحة واحترافية ضرب الأهداف من مسافة بعيدة، بالإضافة إلى مهارة استخدام القوة الاقتصادية، الدبلوماسية والسياسية. تتجلى القوة في عالمنا اليوم في ما يسمّى بحروب الجيل السادس، التي تعتمد على خلق التناقضات بين السلطة والمجتمع في دولة ما، باستغلال الوسائل كافة، وبخاصةٍ العنف غير المسلح، الجماعات الإيديولوجية المسلحة، عصابات التهريب المنظمة، والتنظيمات الإرهابية ومجموعات الهجمات السيبرانية المنظمة، بهدف شن نزاعات اقتصادية، سياسية واجتماعية داخلية، إحداث فوضى، ارتكاب أعمال إجرامية، فبركة المعلومات وتبديل الحقائق، وإرهاب المواطنين بهدف تحدي قدرة الدولة على ضبط الأمن، ووضعها في مواجهة المجتمع الداخلي إلى جانب مواجهة التهديدات الخارجية30.
- تتعدل العلاقات الدولية بشكلٍ حتمي ومستمر، إذ إنه من المرجح مع التطور السريع لقطاع التكنولوجيا أن تضاف عوامل جديدة إلى العوامل التي تحدد القوة اليوم، ما يعني أنها ستتغير في المستقبل. وإذا كانت حرب الجيل السادس تدار عن بُعد من خلال استخدام الأنظمة الذكية والمعلوماتية، الأسلحة، وتحفيز المجتمع عبر التجنيد الكامل لشبكات الإنترنت لتدمير مرتكزات الدولة وإفشالها، واستخدام مختلف الأنماط التكنولوجية والاقتصادية لفرض الهيمنة والسيطرة والإكراه على الخصم، فهذا يعني أن تطور مظاهر مهمة للقوة سوف يستلزم حتمًا تعديل أشكال المشاركة في العلاقات الدولية، ومن ثم فإن مفهوم القوة مفهوم متطور وغير جامد، ويتغير تبعًا لتطور المجتمعات البشرية وتفاعلها، وحسب المتغيرات والظروف، ويكتسب عوامل جديدة، ما يجعل من الصعب حصره في حدود زمنية معينة. علاوة على ذلك، فإن مفهوم القوة يأخذ أبعادًا أخرى عندما تتمركز القوة عمومًا في المركز، ويمتد نفوذها إلى الأطراف التي تحاول الاستفادة من قوتها والتماثل معها. وبهذا المعنى، ففي كل لحظة تظهر قوة معينة تهيمن على النظام العالمي، وتجمع عوامل القوة من البيئة المحيطة بها، ومن ثم تمارسها في مجالها الحيوي.
ج-القوة مفهوم معقد، وليس بسيطًا، ولا يمكن فهمه بشكلٍ كامل نظرًا للطبيعة المعقدة للعوامل التي يتكون منها:
- هناك حدود لاستخدام القوة، إذ إن العوامل المكونة للقوة لا تعني السماح لمن يمتلكها باستخدامها في أي مكان وفي أي وقت من دون وجود رادع، ما يجعل مفهوم القوة نسبيًا. على سبيل المثال، هناك تقييد لاستخدام القوة في الأماكن السكنية، إما لعدم امتلاك الدولة قدرة الوصول إليها أو اختراقها، أو بسبب قواعد الاشتباك التي تفرضها القوانين الدولية أو توازن القوى.
- تعتمد فعالية القوة على نوعية القادة الذين يستعملونها، إذ ليس صحيحًا أيضًا أن من يملك القوة هو بالضرورة اللاعب الأقوى في الميدان. وهذا يثير مسألة أخرى تتعلق بالأشخاص الذين يديرون القوة ويوجهونها، ومدى فعاليتهم وكفاءتهم وقدرتهم على توجيه عوامل القوة بشكلٍ صحيح نحو تحقيق الأهداف المحددة. كما يقودنا هذا التحليل إلى إضافة جوانب أخرى لعوامل القوة المتعلقة بجودة الأشخاص الذين يصيغون الاستراتيجيات والسياسات ويقومون بعملية اتخاذ القرار باستخدام القوة أو التهديد باستخدامها.
- ضرورة التنوع في استخدام السلطة، إذ لا يقتصر المفهوم الحديث للقوة على الجوانب المادية للقوة فقط، بل يمتد إلى القدرة على التأثير، والتي تتم من خلال الكلمة والرأي والتعبير، وهو ما يطرح إشكالية التوازن بين قوة المدفع من جهة، وقوة الكلمة والقلم والموقف من جهة أخرى، بمعنى تقدّم قوة الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي التي يمكن أن تؤثر في الرأي العام وتغيّر في بعض الأحيان قرارات الحكومة ومواقفها.
إذا أردنا إسقاط المفاهيم المتعلقة بالقوة وأبعادها على الحالة اللبنانية، يمكن القول إن لبنان يعاني نوعًا ما من قدرة وسائل القوة الوطنية المتوافرة لديه. فهو قادر إلى حدٍّ ما على حماية أمنه الداخلي، إلّا أنّه يفتقر إلى الوسائل العسكرية والاقتصادية المتطورة والضرورية لمواجهة عدوان خارجي، ويعتمد في الكثير من الأحيان على المساعدات (الاقتصادية، المالية، العسكرية...) من الدول الصديقة، إلى جانب الحرص على عدم التدخل في شؤونه الداخلية. ومن منظار أدوات القوة الوطنية، يظهر التحليل السريع لأدوات القوة الوطنية مدى حاجة لبنان لها، إذ:
- تعتمد القوى المسلحة اللبنانية في الكثير من قدراتها على المساعدات الخارجية، وهي قادرة على حفظ الأمن ومكافحة الإرهاب وحماية السلم الأهلي.
- تدهورت الأوضاع الاقتصادية والمالية والتجارية بشكلٍ كبير منذ العام 2019، إلى جانب العجز التجاري، كما أنّ النمو الاقتصادي لا يزال دون المستوى المطلوب.
- تعاني السياسة الخارجية اللبنانية من شح الموارد اللوجستية والمادية ووضوح الأهداف، ما دفعها إلى تقليص وجودها في الخارج.
- تواجه السلطات بعض الصعوبات في إنفاذ سيادة القانون على كامل أراضيها، وأجهزتها الأمنية، العسكرية، الإدارية والقضائية تعاني من آثار الأزمتَين الاقتصادية والمالية وتداعياتهما. هذا يعني بكل بساطة أن لبنان يفتقر نوعًا ما للقوة الصلبة التي تعزز موقعه الإقليمي والدولي، وتعاني قوته الناعمة من ثغرات وفجوات كبيرة بسبب وضعه الدبلوماسي، وعدم استغلال قوة مجتمعه الثقافية الهائلة واستثمارها، والتي تمده، في حال أراد، بقدرة التأثير الحضاري في الخارج، نظرًا لغناه الثقافي والفكري وتنوّعه. إلا أن هذا الأمر لا يعني إزالة أي إمكانية لحصول لبنان على أدوات القوة الوطنية المطلوبة في المستقبل. فالعجز الظاهر حاليًا نتيجته سوء الإدارة والفساد، وغياب التخطيط الاستراتيجي، بما يعني أن عوامل القوة اللبنانية موجودة، كامنة، غير مستغلة ومستثمرة بالطريقة الصحيحة، ما يقتضي تصحيح المسار من خلال اتباع منهجية واضحة تحدد المصالح الوطنية اللبنانية، وتضع الآليات، الطرق والوسائل لتعزيز أدوات القوة الوطنية. فما هي منهجية التخطيط الاستراتيجي المطلوب اتباعها للحصول على القوة اللازمة بغية تحقيق المصالح الوطنية؟
القسم الرابع
التخطيط الاستراتيجي وعلاقته بالقوة
والمصالح الوطنية
1-مفهوم الاستراتيجية
تختلف التعريفات التي أعطيت لمفهوم الاستراتيجيا، لكن يمكن القول إنها كيف يتم القيام بعملٍ ما. إنها خطة لاستعمال موارد معينة من أجل تحقيق غايات وأهداف عامة. بالتالي، لا يمكن فصلها عن العلاقة بين الفكرة والتنفيذ، الوسائل والنهايات، الموارد والغايات، القوة والهدف، القدرات والنوايا في أي من مجالات النشاط الإنساني. إذًا، هي العلاقة بين ما نريد أن نحققه ends objectives, goals, وما لدينا لتحقيقه Means، أي هي الجسر الذي يربط الوسائل بالأهداف32. بشكلٍ عام هي كيفية أو طرق Ways استخدام الموارد المتوافرة أو الوسائل Means لتحقيق الأهداف التي تخدم المصالح الوطنية أي النهايات Ends33.
2-استراتيجية الأمن الوطني وعلاقتها بالقوة والمصالح الوطنية
عادة، يضع مجلس الأمن القومي في الدولة، أو لجنة متخصصة تحددها السلطة السياسية العليا، استراتيجية الأمن الوطني، التي تصدر لاحقًا عن السلطة السياسية العليا، وهي مستند عام يهدف إلى تطوير، استخدام وتنسيق أدوات القوة الوطنية وعناصرها، لتحقيق الأهداف التي تساهم في حماية الأمن وضمانه والمصالح الوطنية للدولة. تتضمن هذه الاستراتيجية عادة المخاوف على الأمن الوطني، وكيف ستعالجها السلطة السياسية باستخدام جميع أدوات القوة الوطنية35. تهدف استراتيجية الأمن الوطني إلى إظهار قدرة الدولة على حماية مواردها، أراضيها ومصالحها في مواجهة التهديدات الخارجية والداخلية كافة، ليس بواسطة القوة العسكرية فقط، بل باستعمال كل الموارد المتوافرة. وفق ذلك، وللحفاظ على الأمن الوطني، يتوجب على الأمة أن تحافظ على الأمن الاقتصادي، أمن الطاقة، الأمن البيئي، الأمن الغذائي، الأمن الصحي، إلخ... وبالتالي لا تنحصر التهديدات الأمنية بالأعداء التقليديين للأمة مثل الدول الفاعلة الأخرى، ولكن يمكنها أن تأتي من اللاعبين غير الدول، كالمنظمات الإجرامية، وكارتيلات التهريب والمخدرات والسلاح والشركات متعددة الجنسيات والمنظمات غير الحكومية، بالإضافة إلى التهديدات المتأتية من الكوارث الطبيعية، وغيرها. ولتنفيذ استراتيجية الأمن الوطني، على الحكومة أن تضع سياسة الأمن الوطني من خلال الطريقة المتبعة، وتحديد الأولويات، الروزنامة الزمنية، الطرق والخطوات التنفيذية اللازمة الهادفة إلى تحقيق المصالح الوطنية. من الضروري هنا أن يتم دمج جميع فروع المؤسسات الأمنية الفاعلة في البلاد وتنسيق جهودها، من جيش وقوى أمن داخلي وأمن عام وأمن دولة وغيرها، مع الوزارات والمؤسسات العامة، لوضع سياسة الأمن الوطني موضع التطبيق.
3-منهجية التخطيط الاستراتيجي
بعد الإصدار الرسمي لاستراتيجية الأمن الوطني، تقوم وزارة الدفاع بالاستناد إليها، بإعداد مستند رسمي يسمّى استراتيجية الدفاع الوطني، يبيّن كيفية استخدام القوات المسلحة للدولة مع الوكالات، الأجهزة والأدوات الأخرى للقوة الوطنية لتحقيق أهداف استراتيجية الأمن الوطني37. تهدف هذه الاستراتيجية بشكلٍ عام إلى الدفاع عن الوطن بإشراك جميع القطاعات العسكرية والمدنية، ما يعني أنه لا يمكن حصرها بالشق العسكري فقط، بل يجب أن تتضافر جهود مختلف المكونات الاقتصادية، السياسية، المجتمعية وغيرها لمساعدة القوات المسلحة في الدفاع عن الوطن. من المهم الإشارة هنا إلى أنه يجب على جميع الوزارات المعنية، وليس وزارة الدفاع فقط، أن تضع استراتيجيتها الوطنية بحسب اختصاصها لتطبيق استراتيجية الأمن الوطني. مثلًا، تضع وزارة الصحة الاستراتيجية الصحية الوطنية، ووزارة التعليم تضع الاستراتيجية التعليمية الوطنية، وهكذا دواليك. تقوم قيادة الجيش أو رئاسة الأركان بترجمة استراتيجية الدفاع الوطني عبر ترتيبات ونشاطات عسكرية للدفاع عن الوطن، تصيغها في مستند رسمي، عادة يبقى سريًا، أو يمكن نشر الخطوط العريضة لهذا المستند من دون الغوص في التفاصيل، ويسمى الاستراتيجية العسكرية الوطنية. فهي فن وعلم استخدام القوات المسلحة للأمة لتأمين أهداف السياسة الوطنية من خلال تطبيق القوة أو التهديد باستعمالها. أي هي فن وعلم توزيع القوة العسكرية واستعمالها لتحقيق الأهداف الوطنية في أوقات السلم والحرب. الاستراتيجية العسكرية الوطنية هي بكل بساطة تحقيق أهداف الاستراتيجية الدفاعية وبالتالي استراتيجية الأمن الوطني38، وتبيّن طريقة دمج الأساليب والوسائل العسكرية بالأدوات الأخرى للقوة الوطنية من أجل حماية الوطن والدفاع عنه، أو حماية الحلفاء والشركاء، وهي تتعامل مع تخطيط الحملات العسكرية وإدارتها، وحركة القوات العسكرية وتموضعها، إضافة إلى خداع العدو39.
4-مراحل تخطيط استراتيجية الأمن الوطني
يمرّ إعداد استراتيجية الأمن الوطني كما هو محدد في الصورة أدناه، بثلاث مراحل أساسية. في المرحلة الأولى، أي مرحلة التحليل الاستراتيجي، يتم تحليل البيئات الدولية، الإقليمية والمحلية. في المرحلة الثانية، أي مرحلة التقييم الاستراتيجي، يخرج المحللون الاستراتيجيون من البيئات الدولية، الإقليمية والمحلية بافتراضاتٍ Assumptions، يستخلصون منها الفرص والتحديات والتهديداتOpportunities, Challenges & Threats، التي منها يتوصلون إلى النهايات المطلوبة أو المصالح الوطنية National Interests، مع الإشارة إلى أن الافتراضات المستخلصة من البيئة المحلية تساعد على فهم وسائل قوة الدولة ونقاط ضعفها Instruments of National Power DIMEFIL. في المرحلة الثالثة، أي مرحلة التخطيط الاستراتيجي، يقوم المحللون بمقارنة وسائل القوة بالمصالح الوطنية، ويستنتجون قدرة الدولة على تحقيق أهدافها المنشودة أم لا. بعد ذلك، يحدد المحللون الاستراتيجيون الخطوات المطلوب القيام بها في المستقبل بناء على المقارنة التي نُفّذت في هذه المرحلة، ويصيغون الاستراتيجية المطلوبة.
على الرغم من وجود العديد من الاستراتيجيات، الخطط، الدراسات والبرامج في لبنان، إلا أنه ما زالت الدولة اللبنانية تفتقر إلى استراتيجية واضحة. ويشهد اللبنانيون حاليًا أسوأ أزمة اقتصادية، سياسية واجتماعية يمكن تصورها في التاريخ الحديث. تكمن المشكلة في غياب الثقافة الاستراتيجية، وعدم الاعتماد على التخطيط الاستراتيجي الشامل، المنظم والمتماسك، في ظل عدم تحديد التوجهات والأهداف الاستراتيجية بشكل جليّ، وعدم وضع استراتيجية أمن وطني واضحة ومكتوبة، تحقق الأمن السياسي، والعسكري، والاقتصادي، والاجتماعي وغيره، بالإضافة إلى عدم تنظيم مختلف أدوات القوة الوطنية ووسائلها واستثمارها بالطريقة الصحيحة بهدف حماية الأمن الوطني. ويظهر سوء التنظيم، وعدم التنسيق والتعاون بشكلٍ واضح من خلال تعدد الاستراتيجيات والخطط التي تضعها مختلف الوزارات، مثل الاستراتيجية الوطنية للحماية الاجتماعية، الاستراتيجية الوطنية للتغذية، استراتيجية الشباب والرياضة 2010-2020 وغيرها من الاستراتيجيات المطلوبة حقًا، إلا أن المشكلة تكمن في أنها غير مترابطة وغير منسقة مع بعضها ببعضٍ، إذ تأتي بمبادراتٍ فردية من قبل الوزراء وفريق عملهم، وبمعزلٍ عن التنسيق مع الوزارات الأخرى، ولا تتوافق مع أهداف استراتيجية وطنية تضعها الحكومة كلها.
حالَ غياب استراتيجية الأمن الوطني دون القيام بوضع استراتيجية دفاع وطني تحمي لبنان من التهديدات الخارجية والداخلية. وعلى الرغم من ذلك، وضعت قيادة الجيش استراتيجية عسكرية نابعة من حسن إدراك الواقع الداخلي في لبنان، والظروف والمستجدات الميدانية. وحتى عندما يضع الأفرقاء اللبنانيون تصوراتهم حول استراتيجية دفاعية ويعتبرونها الوسيلة الفعالة للدفاع عن الأراضي اللبنانية، يجب عدم اعتبار أن الاستراتيجية الدفاعية هي المستند المطلوب لحماية الأمن الوطني اللبناني، في حين أن هذه الحماية يجب أن تتضمن مفهومًا أوسع وأشمل يتمثل باستراتيجية الأمن الوطني الذي منه تشتق الاستراتيجية الدفاعية. كما لا يمكن تجاهل خطر الإرهاب الذي لا تقتصر مواجهته على القوة العسكرية فقط، بل يتوجب ذلك اتخاذ خطوات تنفيذية من ضمن مفهوم المقاربة الحكومية الشاملة Whole of Government Approach، بما يعني عدم الاكتفاء بالقدرات العسكرية، بل التوجه نحو معالجة الأفكار الإيديولوجية المتطرفة، وتجفيف منابع تمويل الإرهاب. من هنا، يتوجب التركيز في المرحلة القادمة على وضع استراتيجية أمن وطني تهتم بالمواضيع الحساسة كافة التي تمس حياة المواطن وعيشه الكريم وتحمي سيادة لبنان وتحفظ قراره الحر.
من هنا ضرورة تعميم ثقافة التخطيط الاستراتيجي الذي يتوجب أن يكون استراتيجيًا شاملًا طويل المدى، وعاموديًا ينطلق من أعلى هرم السلطة السياسية ويستقر في أسفل السلم الوظيفي في كل إدارة من إدارات الدولة، ووضع السلطة السياسية العليا التوجهات الاستراتيجية الوطنية.
كما يجب العمل على تحليل البيئات الدولية، الإقليمية والمحلية، ومن ثم الانتقال إلى مرحلة التقييم لاستخلاص التهديدات والتحديات التي يواجهها لبنان، والفرص التي يمكنه الاستفادة منها، والحرص على تحديد دقيق للمصالح الوطنية اللبنانية بناء لنتيجة التقييم، وإدراك قدرة أدوات قوة الدولة اللبنانية ووسائلها على تحقيقها، وبالتالي وضع استراتيجية شاملة تنظّم أدوات قوة الدولة ووسائلها بهدف تحقيق المصلحة الوطنية، وبالتالي حماية الأمن الوطني اللبناني.
الخلاصة
يمرّ لبنان بمرحلةٍ دقيقة هي الأخطر في تاريخه الحديث، حيث يعاني العديد من مرافق الدولة، ما ينذر بانهيارٍ شبه تام لمؤسساته وهيكليتها الإدارية، الاقتصادية، المالية، والاجتماعية. وإذا كان من البديهي القول إن الاختلافات حول معظم الملفات المطروحة بين مختلف الأفرقاء اللبنانيين تساهم بشكلٍ كبير في استفحال الأزمات، إلا أنه لا يمكن إنكار الواقع الذي يدل بشكلٍ واضح على سوء الإدارة وتعثر الخطط المطروحة لمعالجة أغلب المشاكل الموجودة.
يبدو منطقيًا معالجة موضوع الأمن الوطني اللبناني عن طريق اعتماد تفكير استراتيجي يخطط لاستراتيجيةٍ شاملة تدافع عن الوطن وتحمي موارده وطاقاته. والدفاع عن الوطن لا يكون من خلال القدرة العسكرية فقط، بل من خلال اشتراك مختلف القدرات والإمكانات والوسائل الموضوعة بتصرف الوزارات، الإدارات، الوكالات والأجهزة الحكومية، ويتحقق عبر مجموعة متناسقة، منظمة، متداخلة وهادفة من الخطط الاستراتيجية لمواجهة التهديدات والتحديات التي تعترض الأمن الوطني اللبناني، واستثمار الفرص المتاحة لتحقيق المصلحة الوطنية العليا. يحوّل هذا التناسق عملية التخطيط الاستراتيجي من مجرد أداة لتحقيق المصالح الضيقة، إلى وسيلة فعالة لبناء الدولة الحديثة القوية والعادلة، وللتطلع نحو المستقبل، والتفاعل مع التطورات بهدف حماية المصالح العامة، والدفاع عن الموارد الوطنية اللبنانية.
من هنا تكمن الحاجة إلى دراسات استراتيجية تعتمد المنطق والحجة والعلم لحفظ أمن الوطن واستقراره، والمحافظة على سيادته، وحماية موارده، واستغلال عناصر قوته، بعيدًا عن الحسابات الضيقة وتشابك المصالح الدولية، الإقليمية والمحلية. ينبغي الانطلاق من الأسس المنطقية لوضع استراتيجية الأمن الوطني اللبناني التي تعتمد على منهاج علمي يحدد المصالح الوطنية اللبنانية، ووسائل القوة الوطنية، ويقارن بينها ليحدد الاستراتيجية الأفضل للبنان، التي تضمن نجاح السياسات العامة، والبرامج، والخطط والدراسات التي توضع لخدمة الصالح العام، والكفيلة بمواجهة التحديات وحماية لبنان من المخاطر والتهديدات.
قائمة المراجع
كتب باللغة العربية
١. كلود الحايك الاستراتيجية كلية فؤاد شهاب للقيادة والأركان بيروت 2013.
٢. تخطيط العمليات المشتركة، الجزء الأول، العمليات المشتركة Joint operation، وزارة الدفاع الوطني، قيادة الجيش، أركان الجيش للعمليات، مديرية التعليم، ك1/ 2010.
كتب باللغة الأجنبية
قالات عربية منشورة في المجلات
١. أحمد علو، هل أصبحنا في الجيل السادس، مجلة الجيش، العدد 405، آذار 2019.
مقالات أجنبية منشورة على الإنترنت